وضع غي هيرميت Guy Hermet، مدير سابق بالمؤسسة الوطنية للعلوم السياسية في فرنسا كتابا سماه: الشعب ضد الديموقراطية، طرح فيه أسئلة جوهرية حول إشكال الانتقال الديمقراطي عند الدول المتخلفة سياسيا من قبيل إن كان العيب لا يوجد على مستوى جهة الحكم، وإنما في قاعدته الشعبية، مستندا على حالات واقعية تصرف فيها الشعب بشكل مناهض لها..، تجسد ذلك في أبشع تجلياته في هتاف الشعب عاليا باسم الطاغية والديكتاتور. استند الرجل في هذه المستنتجات، على الدراسات التي قام بها حول الانتقال الديموقراطي في إسبانيا وأمريكا اللاتينية، غير أن أسلوبه وعلميته المؤكدة جعلت خلاصات أبحاثه تنسحب على مجموع الشعوب غير المتقدمة ديموقراطيا، فبالرجوع إلى المغرب مثلا، نجذ أن الوضع لا يبدو مختلفا تماما، إذ رغم منطوق الوثائق المرجعية للدولة في مسألتي الحكم والتداول: دستور 2011 ومختلف الخطب الملكية ، وكذا محتويات قوانين ووثائق الأحزاب السياسية وغيرها، فإن السلوك السياسي للأفراد داخل مؤسسات الحزب و المجالس المنتخبة بمختلف تشكيلاتهما يناقضها بشكل صارخ، الشيء يجعلنا نقترب كثيرا من دائرة مسلمات غي هيرميت. إذا قلصنا زاوية النظر وقصرناها على مؤسسة الحزب السياسي باعتبارها الأداة التي تمارس تأطير الجمهور وتدفع به بالتالي نحو تربية سياسية ما، فإنه بالتأكيد سنخرج ببعض الخلاصات حول السلوك السياسي اللاديموقراطي للمنتسبين، بدءا بالتعبئة فانتخاب الهياكل الذي يمر ضرورة بتكيف برغماتي للقوانين الداخلية بما يتناغم مع استدامة الهيمنة على الحزب، لأن هذا الأخير كمؤسسة، أو لنقل أغلبها حتى لا نسقط في التعميم المخل، وبكل بساطة لا تقدم الوسائل و الوصفات التي ستدفع بالمجتمع نحو النهايات الديموقراطية، بل إنها لا تثير إلا ما يمكن أن تحافظ به على الواقع المريح كما هو، لأنه وببساطة متناهية يخدم سيطرت المهيمنين الأبدية على القيادة، قد لا يبدو ذلك صحيحا إذا ما التفتنا إلى تناوب الوجوه على زعامة بعض هذه الأحزاب السياسية، إلا أننا إذا أمعنا النظر فسنجد أنه وإن تغيرت هذه الوجوه فليس لشيء آخر غير الضرورات القاهرة كالعجز والموت ورغم ذلك فإنهم يصورون الأمر على أنه سلوك ديموقراطي، لكنه في الجوهر إنما هو حفلة تنكرية بأزياء ديموقراطية . ما يعزز هذه الفكرة هو أن القليل من المؤشرات فقط تكشف عن طوية المنظمات السياسية أي ما يعتمل داخلها: كيف يتم وضع السياسات؟ كيف يتم إعداد الطروحات؟ كيف يتم البحث عن الحقيقة" لجان البحث والتقصي.." كيف يهيأ البرنامج؟ كيف يتخذ القرار؟ تمت إذن أمور لا يريدون أن تخرج إلى العلن، ولا أن يطلع عليها غيرهم، أكيد أنها على درجة من التنميق الديموقراطي وعلى عيوب مسطرية موغلة في السوء، بحيث أنه لا يغفلها إلا المبتدأ أو السطحي أو من أعماه الانتماء بما جعله ينزه منظمته عن كل سوء..، الأكيد أن لكل مبرراته، لكنهم في نهاية المطاف لا يمارسون إلا اللاديموقراطية الحزبية. سؤالا أطرحه دائما على نفسي وعلى بعض المناضلين الذين قد يحدث لي معهم بعض الأنس، كيف سيكون سلوكك كمناضل سياسي حين تتناقض أوامر منظمتك مع قناعاتك الديموقراطية؟؟. الحقيقة "الديموقراطية" عنيدة لا يمكنها احتمال التنازل أو التسوية حولها، لكن واقع السلوك داخل الأحزاب شيء آخر، بحيث أن المناضل يمكنه إغماض العين على خروقات ثانوية، ثم القيام بتضحيات إضافية وذلك بقبول طروحات عملية لا ديموقراطية تتراكم لتنتج البناء السياسي الحزبي بشكل يعارض تماما مبادئ وقناعات البداية. إذا كان جوهر المنهجية الديموقراطية يتجسد في تحويل الانتخاب من آلية لتدبير الاختلاف بين كل مكونات النظام السياسي، إلى سلطة وأداة لتكوين و تشكيل المؤسسات الحزبية والرسمية، فإنه بحكم السلوكات التاريخية التي جوبهت بها الأحزاب بالمغرب، في الفترة السابقة للطفرة النسبية التي جاءت مع حكومة التوافق و ترسخت بشكل أكثر بعد دستور 2011، عندما كانت السلطة السياسية تتدخل في صنع نخب حزبية معينة بطرق مختلفة، وما رسخت لذا الفاعلين داخلها من التوجس المزمن بما جعلهم يضعون المتاريس الواحد تلو الآخر لسد الطريق على المخالف، فإن سياق الواقع الحالي لم يعد يدعم تلك المخاوف والهواجس، بل إن كل سعي إلى إحياء نظريات المؤامرة والعمالة للمخزن أو لجهات حزبية منافسة أصبح آلية متجاوزة، واستدعاؤها لا يكون البتة إلا لأهداف أخرى غير معلنة ومرتبطة بالمسعى اللاديموقراطي الآنف الذكر، وبذلك فإن هؤلاء بالتجائهم إلى هكذا سلوكيات فإنهم يقتلون الديموقراطية، ويعارضون تطبيقها، في الوقت الذي لا ينفكون ينادون بها. فمن هو إذن ضد الديموقراطية؟ الدولة بنصوصها القانونية المتقدمة، أم سلوكات الأفراد داخل تنظيمات الفعل السياسي الحزبي، إنها جملة تساؤلات لا شك ستجعلنا نعيد النظر في العدو الحقيقي للديموقراطية ومن في مصلحته فعلا أن يجعل الجهور في غفلة منه يدعو إلى عكسها معتقدا أنه بذلك إنما يؤسس للبيئة التي بدونها- زعمهم- لا يمكن استنبات شيء يحمل هذا الإسم.