خطوات على منهاج النبوة 7 أريدكم لكم لا لي! هؤلاء الأئمة المبعوثين رسلا وأنبياء وأولياء وارثين يصطفيهم الله تعالى ليدل بهم من شاء من خلقه على طريق التوبة والرجعى إليه سبحانه، وقد ينبعث الواحد منهم بحثا عن خلاصه الفردي فلا يزال المولى الكريم يتدرج به على مدارج التوفيق والهداية حتى يؤهله للدلالة عليه، فينحاز عند ذلك كليا لقضية الدعوة الربانية، والوحي يسدد هداية وتشريعا، وتسديدا وتوفيقا، "فاعلم أن الله جلت قدرته يقضي ولا يقضي الناس، وأنه تعالى يبعث للأمر المهم أضعف عباده، فيؤيده ويفتح له وبه".1 وإن من مقتضيات هذا الانحياز إلى الدعوة الربانية الاستغناء الكلي بما عند الخالق جل وعلا عما في أيدي الخلق، وتلك مقولة الأنبياء جميعا، فقد قال نوح عليه السلام: "فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ".2 وقال لوط وصالح وهود عليهم السلام: "وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ".3 وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم: "قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ".4 وأمر صلى الله عليه وسلم أيضا بقوله تعالى: " قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ".5 وإنما خُص أولوا القربى بالمودة لأنهم معدن الرسالة والوراثة، بهم جدد الله الدين على مر الأزمان، وبهم حفظ لبه بعيدا عن السلطان حين فارق القرآن وحاربه وقاتل أهله. وأولوا القربى هؤلاء الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله"6، قد حرمت عليهم الصدقات تنزيها لهم عن "أوساخ الناس"، وحفظا لقلوب المسلمين، فلا يقول قائل: إنما يجمع الصدقات ليوزعها على أقربائه! وبهذا تكون الدعوة في مأمن من أن يؤثر على استقلاليتها تبعية لجهة ممولة كشأن الأحزاب وطلاب الدنيا. ومازال الإمام عبد القادر الجيلاني رحمه الله يكرر لسالكي طريق الحق على يديه: "أريدكم لكم، لا لي!"، وكان شديد الهجوم على أقوام كانوا في زمانه وقبل زمانه وبعده يطلبون الحظوة عند الخلق بالكلام المنمق، المتلبس بالنصيحة والاشفاق على الخلق، وهيهات هيهات... ولقد اتخذ الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله الإمام عبد القادر الجيلاني نموذجا للعالم الرباني الناصح بصرامة لطالب الحق عز وجل، كما اتخذ أئمة آخرين كنماذج لفئات معينة، كالإمام عمر بن عبد العزيز نموذجا للحاكم العادل ذي "المشروعية الحقة"7، والإمام أبو حازم كنموذج للعلماء العاملين المتعففين عن نقر الفتات الحرام من تحت موائد السلطان8. نماذج ممن انهضهم الله تعالى للتعلق به دون سواه، والإعراض الجازم عما في أيدي الناس، فكانوا بحق نماذج تستحق الاحتذاء، وتجدر بالاقتداء، كل على قدره ومجاله. يقول الإمام رحمه الله: "ولهذا تعاقب أنبياء الله في الناس يجددون لهم حتى ختم الله الرسالات بنبيه المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم. وهو أخبرنا بأن الإيمان يبلى فيتجدد بلا إله إلا الله، وأخبرنا أن الله يبعث لهذه الأمة من بعده مجددين على رأس كل مائة سنة. وهكذا رسم لنا خطى اللقاء الدالين على المجدد. فهو رجل قبل كل شيء شخص مفرد كما يليق بالنموذج التربوي، وهو لا يملك أن يجدد إلا إن كان صاحب الكلمة الطيبة التي هي أعلى شعب الإيمان. فمن كان يملك أن يقول للناس: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" ويفلحون أن قالوها كما أفلح من اتبع الرسول فذاك مجدد فيه مزيتا التعريف النبوي."9 ولم يتمكن الملبسون من التشبه بهذه الصفوة من خلق الله مهما أتقنوا المظاهر، ونمقوا العبارات، لأن المنطلق خاطئ والمقصود الحظ من الخلق لا من الحق جل جلاله، والتاريخ مليء بالدجالين، أدعياء النبوة والولاية والصلاح، وإن خدعوا طائفة من العوام فإنهم لم يَعْدوا قدرهم. قال الإمام رحمه الله: " للعارفين عند الله عز وجل الشرفُ. وبمعرفته عز وجل استحقوا التشريف. عِلْمُهُمْ هو العلم، ووِراثتُهم للنبوة تتجاوز روايةَ النصوص والأخبار إلى التخلق بخلُق الأبرار، والتحلِّي بالأسرارِ والأنوار. ليس ثمةَ شهادةٌ بشريةٌ تُدْفَعُ لهم، لكنَّ حَمَلَةَ الدبلومات، والدكتوراتِ، والإجازات، بالنسبة إليهم هواءٌ. فهذا الشرفُ العظيمُ المخوِّلُ لرئاسةٍ كبيرة، وهيْبَةٍ عظيمة في النفوس لا تزال تشرئب إليه أعناقُ الأدْعياء، يُمَوِّهون على الناس برياء المظهر، وانتفاخِ الكلمة، ومَضْغ المصطلحات. إيَّاهم عنى الشيخ عبد القادر بالقفص الفارغ، وإياهم حذَّرَ وأنذر".10 ومع أن بلاء العض والجبر الذي أصيبت بهما الأمة طيلة تاريخها قد نحيا هؤلاء الهداة من دائرة الأضواء، وقربت هذه الأقفاص الفارغة تضفي بهم هالة من القداسة على طقوسها الدخيلة على الدين، فإن الأمة لم تتعلق في صميمها إلا بالصادقين، ولم تخلد إلا ذكراهم، وصدق الله العظيم إذ يقول: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً".11 قال كنز معدنهم الإمام علي عليه السلام: "...العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته، وصنيعة المال تزول بزواله. مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة...".12 وبالمحبة عاش الإمام رحمه الله ورحمنا به وبها ودع هذه الحياة، وقد سالت أودية بقدرها، وبقي في القلوب ما ينفع الناس من محبة الله ورسوله وأولياء الله تعالى، فاللهم ارزقنا حبك، وحب نبيك صلى الله عليه، وحب من ينفعنا حبه عندك. الهوامش: 1الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: رسالة الإسلام أو الطوفان 2 سورة يونس، الآية: 72 3سورة الشعراء، الآية: 164 4 سورة سبأ، الآية: 47 5 سورة الشورى، الآية: 23 6 1772 – رواه الإمام أحمد قال: حدثنا يزيد هو ابن هارون، أخبرنا إسماعيل يعني ابن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس بن عبد المطلب، قال: قلت: يا رسول الله، إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها. قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، وقال: ... " ط الرسالة-ج 3- ص: 294 7 يراجع بهذا الخصوص: رسالة الإسلام أو الطوفان 8 يراجع بهذا الخصوص نفس المرجع السابق أيضا 9 الإسلام غدا، ص: 413-414. مطابع النجاح 1973. 10 الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: إمامة الأمة، ص: 154 11 سورة مريم: الآية: 95 12من وصية الإمام علي عليه السلام لكميل بن زياد، حلية الأولياء لأبي نعيم.