لا تحضر أفغانستان ضمن التعاطي الإعلامي إلّا كفضاء للحرب والدمار ومعانقة الموت.. وكلّما يُذكر اسم البلد إلّا واستُحضرت حركة طالبان والاحتلال الأمريكي، والتطرّف الديني وأشلاء الأفغان، وما إلى ذلك من صور الفناء.. غير أن الفيلم الوثائقي "أغنية كابول" قدّم صورة أخرى عن أفغانستان لجمهور أكادير، جاعلا البلد ملازما للفرحة والابتسامة والأغنية الجميلة. رغم دخوله في عقد الثمانينيات، ورغم مرارة البعد عن الوطن، لا يزال الأستاذ الموسيقي حسين أرمان يحمل في مسماته حب الموسيقى، وهو ما دفعه إلى قبول المشاركة في لجنة تحكيم أوّل برنامج موسيقي تشهده أفغانسان منذ ثلاثين سنة. اسم البرنامج هو "النجم الأفغاني" وهو على شاكلة البرامج التلفزيونية التي تنظم مسابقات بين المتبارين من أجل الوصول في آخر حلقة إلى نجم الموسم. "النجم الأفغاني" ليس مجرّد برنامج غنائي، بل هو المناسبة الوحيدة لنشر القليل من الفرحة في حياة شعب هدّته الهجمات الانتحارية واحتلال الغرباء. في هذا الموعد الفني، يرقص الشباب الأفغاني متناسين أقرباءهم الذين رحلوا، هناك منهم من لا يدري هل سيبقى حيًا أم سيقتل غدًا إثر انفجار عبوة ناسفة. حتى مع الموت الذي يتجوّل بحرية في أرجاء كابول، تستمر الموسيقى ولو باستحياء في دروب وأزقة هذه المدينة. عبر عودة أرمان إلى كابول رفقة مخرجي الفيلم ليسبت كوتشوموف ووولدكران ريبيريو، نستعيد ذكرياته عندما كان من أشهر المغنيين داخل أفغانستان قبل ثلاثين سنة، نكتشف تحوّل هذا البلد إلى النقيض تمامًا. في أغاني السبعيينات التي لا تزال مخبأة في دهاليز التلفزيون الأفغاني، نكتشف مطربة تغني دون حجاب، ترقص بحرية وتتماهى مع كلمات وألحان الأغنية.. نكتشف أفغانيات يلبسن تنورات قصيرة ويتجولن بأمان في مدن البلاد.. نكتشف تنوّعًا اجتماعيًا بعيد عن القوانين الاستعبادية والأعراف الضيّقة. يحكي أرمان بكثير من الحرقة:" تغيّرت الأوضاع تمامًا منذ دخول السوفيات إلى البلد وظهور طالبان. تعود البلاد تعود للوراء عامًا بعد عام". ثم يرّد عليه صديقه الذي شاركه أداء الأغاني في "راديو كابول": "حتى الثقافة الموسيقية تراجعت بشكل كبير، فالناس حاليًا يشاهدون ولا يسمعون". في هذا الفيلم الذي استمتع به جمهور النسخة السابعة من المهرجان الدولي للفيلم بأكادير، نتعرّف على "بهار"، الشابة الوحيدة التي تجرّأت وشاركت في هذا برنامج "النجم الأفغاني". فرغم التهديدات بالقتل التي تلقتها، ورغم نظرة المجتمع لها، طاردت "بهار" حلمها بالنجاح في المسابقة، وحتى عندما أقصيت في لمراحل الأخيرة، كانت تبكي بحرقة وتكرّر القول إنها كانت تنتظر من بنات بلدها التصويت عليها.. كأنها أحسّت بأنها تمثل المرأة الأفغانية الحرة، التي لا تدفعها التقاليد والأفكار الدينية المتشددة إلى لزوم البيت والابتعاد عن الحياة العامة. بعد نهاية العرض، استعرض المخرجان الصعوبات التي واجهتهما في التصوير، فرغم عملهما الصحفي وتوّفرها على ترخيص بالتصوير، إلّا أن حمل الكاميرا في بلد اسمه أفغانستان ليس بالأمر السهل، وهنا حضر الأستاذ أرمان كمفتاح فتح لهما الكثير من الأبواب المغلقة. تحدثت المخرجة ليسبت كوتشوموف عن أرمان الذي تجمعها معه قرابة عائلية بكثير من الاحترام، وحيّت فيه إصراره على الغناء في زمن حمل السلاح. طلب اللجوء إلى سويسرا بداية التسعيينات بعد أن أكدت طالبان عزمها على إغلاق كل المدارس الموسيقية، وهناك في بلاد المنفى، بقي يراقب بلدًا يتمزق عامًا بعد عام، قبل أن يعود ليحيي أمل الفرحة في برنامج "أفغان ستار"، إلّا أن العودة لم تكن ناجحة تمامًا، فقد ساءت أوضاع البلد كثيرًا بعد عام 2012، لدرجة أن زيارته تعد مغامرة إلى المجهول، تؤكد المخرجة. عبر هذا العمل الوثائقي الذي صفق له الحاضرون في المهرجان طويلًا، نتعرّف على جمالية الأغنية الأفغانية الهادئة بإيقاعاتها القريبة من إيقاعات الأغنية الهندية الكلاسيكية، ونتعرّف على بساطة الشعب الأفغاني وتواضعه وحبه للحياة. أكبر رهان نجح فيه المخرجان السويسريان، هو إضاءتهما لزاوية صغيرة من الفرح داخل أفغانستان في مواسم الحزن الجماعي، كأن الرسالة تنطق بصوت عالٍ: مهما وقع وسيقع.. دعوا الموسيقى تعيش معكم.. إنها جزء من تراثكم.. بل جزءًا من وجودكم.