أسابيع قليلة تفصل الأتراك عن صناديق الاقتراع، لاختيار ممثليهم في مجلس الشعب، من خلال انتخابات برلمانية لا تحمل أهمية كسابقاتها، خاصة بعد اجتياز حزب "العدالة والتنمية" لمطبات "حرجة" في السنوات الأربع الأخيرة، توِّجتْ بتصدره للاستحقاقات "البلدية" و"الرئاسية". فكيف جرى ذلك؟ بعودةٍ إلى الوراء، نلاحظ أنّ تركيا عاشت حدث "كيزي بارك" الشهير، الذي كان الأصعب على الحكومة التركية، وبعدها واقعة ادعاءات "الفساد والرشوة" التي اتُهِم فيها بعض الوزراء في الحكومة وأبناؤهم، قبيل الانتخابات البلدية، وقد تناولته جميع وسائل الإعلام الدولية. إنّ الرابط المشترك في هذه الأحداث، هو كونها تطفو إلى المشهد السياسي قبل كل استحقاق انتخابي، وهذا يجعل المتابع يجزم أنها مخطط لها بشكل واضح، من قبل تنظيمات تحاول توقيف مشعل "الريادة" الذي يحمله "العدالة والتنمية". والواقف على خط الحياد، سيؤكد أن الانتخابات الحالية لا تشكل خطرا على حزب العدالة والتنمية، بعد حكم دام أكثر من عقد من الزمن، لا سيما وأنه مع كلِّ استحقاق تزداد نسبة المصوتين، بحسب الأرقام التي تسجل دوريًّا. وفي هذه اللحظة الزمنية نرى أن الخريطة الحزبية التركية، واضحة بشكل تام، فنحن الآن أمام قطبين سياسيين، الأول "الأغلبية" يمثله حزب العدالة والتنمية الحاكم، وقطب ثان ثمثله أحزاب المعارضة بمختلف توجهاتها "حزب الشعب الجمهوري، حزب الحركة القومية، وحزب الشعوب الديمقراطي "كردي"، وحزب السعادة "إسلامي التوجه"، وأحزاب صغيرة أخرى، دون إغفال لجماعة فتح الله غولن "تنظيم غير حزبي". وبنظرة تقييمية سريعة إلى القطبين من خلال جرد لعملية السباق نحو يوم 7 يونيو، سنستشف أن قطب الأغلبية استفاد من تجربة "عقد" من الحكم، عبر الاعتماد على قيادات تضم أطرًا متمرسة استفادت من التجارب الأجنبية، حتى انتقلت من النسخ أو الإسقاطات، نحو خلق نموذج سياسي يندمج مع البيئة التركية، يجيد عملية الهجوم والدفاع، واللعب على الأوتار الحساسة التي "تطلع" أوراق رابحة. بالمقابل، وحين ارتفع سقف تنظيم اللقاءات التواصلية مع المواطنين، والتكثيف من التصريحات الصادرة عن القيادات المعارضة، ظهر للمتتبعين السياسيين، أنهم لم يستفيدوا بعد من السنوات الطويلة في العمل السياسي، كيف ذلك؟. الإجراءات خير دليل، وسنتوقف عند العناوين للحصر فقط، فالحزب الحاكم، مازال يواصل إصدار حزمة إصلاحات جديدة شعبية تزيد من نسبة المتعاطفين معه، بداية من مشروع أول نفق في العالم بثلاثة طوابق، والإعلان عن أول قطار سريع محلي الصنع، وكذلك التعامل مع قضية سفينة مرمرة بطريقة "عاطفية" ذكية، وآخرها عملية نقل "ضريح سليمان شاه". وعلى النقيض من ذلك، استهل "كلتشدار أوغلو" وقياداته داخل حزب الشعب الجمهوري "أكبر أحزاب المعارضة"، حملتهم الانتخابية بوعود غير شعبية، منها إعادة إرسال السوريين إلى وطنهم، ومنع الآذان من مكبرات الصوت، وإغلاق الثانويات الشرعية المعروفة باسم "الأئمة والخطباء"، ووعود هلامية من جهة ثانية: كالإعلان بتفاؤل عن تشكيل الحكومة بعد الانتخابات مباشرة. المؤشرات واستطلاعات الرأي، أغلبها تعطي للحزب الحاكم نسبة 47.7 في المائة، ولحزب الشعب الجمهوري 25.1 في المائة، ولحزب الحركة القومي 15 في المائة، وحزب الشعوب الديمقراطي بنسبة 8.9 في المائة، وهي أرقام قابلة للتغيير الطفيف مع الأسبوع الأخير. ولا ينكر أحد من الفاعلين السياسيين الأتراك أن استطلاعات الرأي في تركيا طوال سنوات مديدة، هي أقرب بكثير إلى النتائج الرسمية، خاصة أن أغلبها يكون صادرا عن شركات مختصة خاصة، تعتمد على الطرق المنهجية العالمية. غير أن المعطى الجديد، هو طموحات رئيس الجمهورية الحالي "طيب رجب أردوغان" المتواصلة، التي تدفعه الآن إلى الدخول كطرف مباشر، والتي ستزيد من تثبيت دعائم الدولة الديمقراطية، بإلحاحه المستمر على تحويل النظام التركي إلى "نظام رئاسي". كما أن حزبه السابق "العدالة والتنمية"، سيدخل الانتخابات التشريعية بعباءة إنجازات "مرحلة أردوغان"، الناجحة اقتصاديا وسياسيا بشهادة الخصوم قبل المؤيدين، وأيضا دعمه المباشر للحزب في جميع اللقاءات الرسمية، دون ذكر للتنظيم السياسي حفاظا على "استقلالية" يجبرها القانون عليه. المفارقة في حزب "الأغلبية" الحالي، رغم كل الاتهامات إلا أنه يواصل تصدّر الاستحقاقات، و"تسخين" المشهد السياسي على طريقته الخاصة، رغم أن الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية في تجارب ترؤسها للحكم، كانت "تفشل" بسبب المؤامرات التي تحاك ضدها بتخطيط ودعم أجنبي. هنا تبقى التجربة التركية "الإسلامية" نموذج يستخلص منه، أن "قليلًا من الديكتاتورية" من وجهة نظر المعارضين، ومن ناحية أخرى الصرامة وعدم التساهل "بلسان المؤيدين" التي يوظفها "أردوغان" في طريقة حكمه للمشهد السياسي لسنوات طويلة، ترشحه بقوة روح الفريق التي تجمعه مع رفاق مراحل النجاح، في الاستمرار نحو "تركيا الجديدة2023". *صحفي مغربي بجريدة "يني شفق" التركية