ينبغي التأكيد ابتداءً على مسألة في غاية الأهمية، وهي أن القوى الدولية الكبرى تتعامل مع باقي دول المعمور وفق موازين القوة، وكلما صعدت قوى إقليمية أو دولية جديدة، تراوح التعامل معها بين الاستتباع والاحتواء، والمواجهة أو المهادنة، وبالتالي فإنها حينما تلجأ لخيار المفاوضات لفض نزاع سياسي دولي مع طرف ما، فإنما تمارس هذه المسلكية بناء على قاعدة "هات وخذ"، التي تفرضها منطلقات الندية والتكافؤ والتواجد على الأرض، فالتفاوض لا يكون مع من لا يملك أوراقا يمكن فتح باب المزايدة بشأنها، ولا مع من لا يملك السيادة التي تخوله حق رفض أي إملاء أو إخضاع أو ترهيب. وهو ما يعني أن ما جرى ويجري لحد الآن من تفاوض بشأن الملف النووي الإيراني، ليس متعلقا بهذا الملف مفردا، فالعملية مرتبطة بوضع إقليمي ودولي احتلت فيه إيران مكانة استراتيجية متقدمة، تمكنت خلالها من استجلاس عواصم القرار العالمي وجرها نحو معادلة "الأمن مقابل الاتفاق"، على الرغم من الشروط الواردة في اتفاق لوزان، والتي يرى بعض المراقبين أنها مجحفة بحق طهران، خاصة حينما تم ترك أغلب بنود الاتفاق معلقة بمدى استجابة الإيرانيين وتطبيقهم لحذافير الحدود الضيقة والدقيقة المرسومة فيه. ولقد أتى الإعلان عن هذا "الاتفاق الإطار" أياما قليلة بعد انطلاق العملية العسكرية التي تشرف عليها الولاياتالمتحدة وتقودها السعودية ميدانيا ضد اليمن، مما أعطى لهذا التحرك العسكري طابعا تمهيديا لاتفاق لوزان. واستعملت الولاياتالمتحدة الجيوش العربية، كأدوات ضغط ضد إيران، حيث بدا وكأن "عاصفة الحزم" شكلت غطاءً جويا لطاولة المفاوضات مع إيران، وليس لدحر الحوثيين وإعادة "الشرعية" كما زعمت دول التحالف العسكري ضد اليمن، وما يفسر ذلك هو محدودية الضربات الجوية في أماكن تواجد أتباع الحوثي، في مقابل تقدم جيش هذا الأخير في محاور متقدمة داخل العمق اليمني، مع عدم قدرة دول التحالف على القيام بعمل عسكري بري شامل، يفرض بالفعل عودة ما سُمي بالشرعية في البلاد، وذلك لكون أي اجتياح بري قد يشكل مغامرة غير محسوبة العواقب، لانعكاساتها المحتملة على الوضع الداخلي في اليمن، الذي قد يطول معه أمد الحرب، وتتضاءل أمامه فرص السلم الأهلي، وتصعب فيه العودة إلى العملية السياسية، ناهيك عن الأخطار الكثيرة المحتملة على دول الجوار. لذلك تبقى التهديدات المنبعثة من بعض دول التحالف العربي ضد قوات الحوثي، مجرد طلقات في الهواء، تخبئ وراءها رغبة أكيدة في الخروج بحل يحفظ ماء وجه الجميع، خصوصا أمام الاصطفافات الجديدة التي بدأت تتشكل في الداخل اليمني، والتي يذكي بعضها الشعور العام بالخطر الأجنبي، مما ينذر بمقاومة شعبية قد تأخذ أشكالا شرسة ضد دول التحالف العسكري، فضلا عن انكشاف الدور الذي يلعبه هذا التحالف العربي/الإسلامي الفجائي، لصالح صائغي خارطة الثروة والحرب والسلام في المنطقة. وغير بعيد عن اليمن، تلعب إيران أدوارا في غاية الدقة والحساسية، على مربع مشتعل بالكامل، حيث تدور رحى معارك كونية في كل من سورياوالعراق على الخصوص، تلتقي فيها أسلحة يحملها مقاتلون من عشرات الجنسيات، ويحملون معها آلاف المبررات العقائدية لقتال من يخالفونهم المذهب أو الطائفة أو العشيرة، وهي المبررات التي تغطي على الصراع الذي يدور حقيقة بين قوى دولية وأخرى إقليمية، هدفها تقسيم مجالات النفوذ، والوصول إلى أبعد نقاط ممكنة في خارطة عربية وإسلامية مليئة بالجراح والندوب، فيما تلعب الجماعات المسلحة دور أرانب السباق التي تملك سرعة البداية القصوى، بينما تغيب عنها استراتيجيات النهايات البعيدة، وتتيه في الغالب عن خط الوصول. ولقد ساعد هذا الوضع الملتبس في المنطقة برمتها منذ أزيد من عشر سنوات، على تمدد المشروع الإيراني المبني على ثلاث قوائم: القائم الأول هو التوسع الاستراتيجي في مقابل الحصار الغربي والإقليمي، وقد استطاعت إيران أن تحقق بالفعل مكاسب عديدة عبر انخراطها في علاقات شراكات استراتيجية مع كل من روسيا والصين والهند والعديد من بلدان أمريكا اللاتينية، وحتى في العمق الأوربي مع دولة مثل ألمانيا، فضلا عن إدارتها عمليا للمحور الذي يضم القوى العربية المقاومة للاحتلال الصهيوني. القائم الثاني الذي تعتمد عليه إيران في مشروعها الاستراتيجي، هو التوسع المذهبي، وهو عامل في غاية الأهمية مكّن إيران من بسط نفوذها على مساحات واسعة في العالم الإسلامي، ويتزايد انتشار المذهب الشيعي بشكل مضطرد في شتى بلدان المنطقة، مع احتفاظ إيران بنفوذ مذهبي كبير في كل من العراقوسوريا ولبنان واليمن والبحرين وباكستان وأفغانستان وأجزاء من السعودية والكويت وغيرها من مناطق النفوذ الكلي أو الجزئي الذي وصل حتى أقصى شمال إفريقيا، بل إن أتباع المذهب يتزايدون حتى بين مسلمي القارة الإفريقية بأكملها. وفي مقابل تشتت العالم "السني" وغياب "قيادة" مركزية له، خاصة على مستوى الفتوى، يتوحد الشيعة في شكل مرجعيات فقهية، تتجاوز وظيفتها الدينية، إلى توجيه المواقف السياسية لأتباعها. ويشكل العامل المذهبي رافعة إيديولوجية للتوسع الإيراني، مما يمنح للأداء الإيراني قوة إضافية، تفتقد إليها باقي القوى المتصارعة معها، على الرغم من وجود من يدعي تمثيل "السُّنة" وحمايتهم، ضمن القوى النقيضة إقليميا لإيران، وفي حين تنهج الدول الراعية للمذهب السني طرقا تقليدية في نشر وحماية المذهب، تستعمل إيران أساليب دقيقة ومننوعة، من الخطاب المذهبي المباشر، إلى الخطاب الثقافي العام، ومن استقطاب الحركات والقوى الإسلامية الأكثر شعبية إلى احتضان قوى المقاومة، مرورا باستمالة القوى القومية واليسارية واستيعابها. ويمثل القائم الاقتصادي، خاتمة الثالوث الذي تستفيد منه إيران كعامل مساعد على ضمان تواجدها كقوة فاعلة بالمنطقة، حيث إن امتلاك طهران للطاقة النفطية، وبعض الموارد الطبيعية الهامة، ساعدها كثيرا على الحفاظ على علاقات قوية مع بعض الدول التي تحولت دول حليفة لإيران، وفي مقدمتها روسيا والصين، اللتان تعدان شريكا استراتيجيا لإيران، استطاعت عبرهما فك العزلة عن نفسها وسط الحصار الغربي والفوضى الإقليمية، وتجاوز العقوبات الاقتصادية التي فُرضت من مرة على البلاد، والاستفادة أساسا من خبرتهما البحثية في تطوير برنامجها النووي وقدراتها الصناعية. والأكيد أنه إذا أتيحت الفرصة لإيران، للانفتاح الاقتصادي على المنطقة العربية والإسلامية، فإنها ستغير حتما كثيرا من قواعد التداول داخل هذه الرقعة، بشكل قد يفوق التغلغل التركي في اقتصاديات المنطقة ونشاطها التنموي والتجاري والصناعي. إيران اليوم تعيش من دون شك في استقرار سياسي داخلي تساهم فيه قدرة الساسة الإيرانيين على امتصاص خلافاتهم، أمام حالة التأهب الدائمة تجاه أعداء المشروع الذي بدأته ثورة 1979، والاقتصاد الإيراني النامي يعزز من إمكانيات هذا الاستقرار ويقويه، كما تتمتع الجمهورية الإسلامية بثقل إقليمي كبير، يوازيه ضعف شديد لدى القوى العربية الطامحة إلى لعب أدوار وازنة بالمنطقة، وأوضاع سياسية وأمنية تتفاوت بين الضبابية والارتباك في أغلب هذه البلدان، مما يرجج كفة طهران في تحقيق مكاسب استراتيجية، تضمن لها الاستمرار في التوسع من جهة، وتخفيف الضغط الدولي المفروض عليها من ناحية أخرى. لكنها بالمقابل تخسر جيرانها الأقربين، في ظل أجواء انعدام الثقة المتبادلة، التي تغذيها حساسيات المذهب والطائفة، فيخسر الجميع فرصة تاريخية كبرى لإنشاء تحالف عربي إسلامي واسع، ومنبعث من إرادة حقيقية في إخراج الشعوب الإسلامية من إسار التخلف والوهن الحضاري، وخلق حالة مناكفة ل "إسرائيل" وأمريكا والغرب، ينبجس من خلالها قرار عربي إسلامي شعبي قوي وموحد. وخارطة المنطقة الآخذة في التحول ستمنح لإيران إمكانية نادرة للتفرد، دون العرب، بمؤشر التوازن مع قوة أخرى يُراد لها الاستفراد بالتأثير في المنطقة، هي "إسرائيل"، المتواجدة في عمق أي معادلة تصوغها إرادة القوى المهيمنة في الشرق الأوسط، والتي تسعى واشنطن اليوم لإعطائها كل الضمانات لطمأنتها بعدم سماحها مطلقا بوجود أي قوة عسكرية إقليمية أكثر تفوقا من تل أبيب، ِفيما تأخذ تركيا موقعها كقوة وسطى قد تشكل مستقبلا عامل اختلال في توازن إقليمي، تتبين ملامحه يوما بعد يوم، ويبقى العرب هم الخاسر الأكبر وسط عالم تزداد سرعة تحوله، وتبرز فيه قوى جديدة تقتحم جغرافيتهم لتصوغ صفحات أخرى من التاريخ.