كان من نتائج تفتح المجتمع العربي المعاصر على الثقافة الغربية ، أن دخل مفهوم الإخراج السينمائي قاموس ذلك المجتمع ، فأصبحت السينما ملاذا لكل طامح في نشر طرحه الإيديولوجي أو الدعوة لتوجهه الديني أو الترويج لتصوره السياسي ، فباتت مسألة تفرض نفسها فرضا في حياة الفرد و المجتمع على حد سواء ، إلا أن طبيعة مفهوم الإخراج السينمائي التي روج لها الآباء المؤسسون من جهة و المسار الذي اتخذه أو بالأحرى الأفق الذي ضل ينمو فيه داخل النسق العربي المتقوقع ، لا يستقيمان إلا وفق منحيين مضادا التوازي ، ذلك أن النموذج الذي يحذو حذوه العالم العربي في الإخراج السينمائي ، يظل رغم كل ما يقال من تجديد و تحديث في بنية الوعي ، يعوزه الكثير من الانكشاف و الجرأة و الفضح إن لم نختزله في مربع تزكية الوهم . من هذه الناحية كنت أتفهم كامل التفهم انتقاد أحد أساتذة الفلسفة للإخراج السينمائي في العالم العربي ، هذا الذي لم يكن ليرى في المخرج إلا مدخلا ، و لكي أواصل شرح نظرته النقدية الساخرة للإخراج ، سأستطرد بنقل بعض ما سمعته منه : بدون الخوض في سؤال إلى أين، ومن أين نخرج؟ ودون الخوض في تاريخية مفهوم الإخراج السينمائي ، و جرد معظم تعاريفه سأحاول أن أضع تعريفا أنا أعي تمام الوعي تمام الوعي أنه لن يجيب عن سؤال الفيلسوف برغسون . بالمعنى اللابرغسوني للمفهوم ، فالإخراج السينمائي هو إخراج للفكرة أو النص إلى صور و أصوات ، بل إخراج للمعنى و الرسالة ، إخراج للحقيقة و التعبير عنها بالوسائل الأكثر تعبيرا و محسوسية ، و عندما ينزاح الإخراج السينمائي كمفهوم عن الخصائص التي تكون معناه ، فإنه يصبح إدخالا مضمونا و إخراجا على مستوى الحروف المكونة لكلمة إخراج فقط ، و في هذا الإطار يصبح الأمر يتعلق بأفلام سينمائية إدخالية . تشوه مفهوم الإخراج السينمائي يشوه مفهوم المنظومة السينمائية بأكمله ، ليصبح المخرج مدخلا و مساعده مساعد المدخل ، منتج إدخالي ، ناقد إدخالي ، مهرجانات إدخالية ، مراكز سينمائية إدخالية ... إنها سكيزوفرينيا بين الدال و المدلول ، الكلمة و المعنى ، الإخراج و الإخراج و الإخراج السينمائي . قد نعتبره مرضا أصاب المشتغلين في هذا المجال ، لذا وجب خضوعهم لإخراج تحليلونفسي لاستشراف سبب مرضهم ، و إذا كان الأمر لا يتعلق بمرض بل هو فعل قصدي فالأمر حتما يتعلق بالكذب السينمائي على مستوى المعنى ، الرسالة و الحقيقة . الأمثلة عديدة و أسباب التخمة التي نعاني منها فيما يخص هذه الأفلام السينمائية لم أشأ أن أسقط الضوء عليها فهي لا تحتاج إلى هذا الأمر . لم تقف هذه الأزمة الأخلاقية السينمائية عند مستوى الكذب فقط ، بل تعدته إلى السرقة و شهادة الزور ، مدخل يمتحن شخصية مخرج ، شاهد عيان يشهد شهادة زور في قضية المعنى الرسالة و الحقيقة ، يمتهن " المنيسا " كلمة سينما مقلوبة في شخص " السينما " ( الإخراج السينمائي ) و كل هذه الانحرافات قد نسميها إجراما ، فيمكن الحديث عن إجرام سينمائي يمارس في عدة منابر ، لكن ما يميز هذا الإجرام عن الإجرام الذي نعرفه ، هو أنه ينفلت من قبضة القانون و حتى الوعي عند بعض الأشخاص طبعا ، لأنه إدزوي نسبة إلى مرض الإيدز ، رغم أنه مألوف و يشتغل بجانبنا و السبيل لمعرفته هو الدهشة الفلسفية ، إننا لا نندهش ، لن نجد منفدا لها ، إننا لا نعرفها . قد يبدو كلام أستاذ الفلسفة كوميديا أكثر من كونه علميا ، لكنه بالفعل لا يحيد عن الصواب مثقال أنملة ، فالمنابر السينمائية المهمة داخل النسق العربي أو بالأحرى الناجحة داخل ذات النسق ، ليست تلك التي تتوفر على طاقات إبداعية و كفاءات قادرة على تحليل الواقع و الكشف عن خبايا الظواهر التي لا تمنح نسفها للإدراك المباشر ، و إنما تلك التي بإمكانها أن تستقطب أكبر عدد من المتابعين الذين لا قدرة لهم على التساؤل عن ما وراء الصوت و الصورة ، و من هنا تأتي ضحالة أهمية الإخراج السينمائي الهادف ، بما يعزز في أعقاب ما ذكر دور الإخراج المبني للمجهول .