وحدُهن الأمهَات لا زلنَ يملكنَ احتياطيًّا وافرًا منْ الحبِّ في زمن النضُوب هذَا، وقدْ استعر الحقد وتغولت الدموية، وباتتْ كثيرٌ منْ الموارد في باطنِ أرضنَا تقبلُ على الاضمحلال وتؤُول إلى النُّدرة. الحادِي والعشرُون منْ مارس، تارِيخٌ يمرُّ بخفوتٍ في مجتمعنَا، حيثُ لا يزالُ الإيمانُ بما هُو رمزِي ترفًا زائدًا، بيدَ أنَّه يومٌ يوقدُ فينا رغم ذلك جبلة العرفان، تجاهَ منْ يهبنَنا الحياة، ويتكبدن مشقة كبرنا شبرًا بشبرٍ، ويواظبن على قلقهن وجزعهن لأجلنا، امتداد الأيَّام والأعوام التِي ندُبُّ فيها على الأرض. جميلٌ أنْ يظلَّ ثمَّة شيءٌ صادِق في حياتك السريعة، وتحُوزَ قلبًا يدعمكَ بصورة غير مشروطة، فيغفرُ زلاتك، ثم لا يسألكَ نظيرَ ذلك في نهاية المطاف مقابلًا، يعوضُ تأوهات المخَاض، ويداري سهاد الجفُون، ويكافئ المشيمة التي أطعمتك في الرحم، واليد التي حممتك وأنت لا تزالُ كيلوغرامينْ أوْ ثلاثة، قادمًا بوهن عظامك وطراوةِ لحمك إلى الحياة. مذهلٌ أنْ يكُون على الأرض قلبٌ ودَّ لوْ يتحملُ عنكَ الأذَى، ويذودُ عنكَ بعنفٍ، وإنْ آذيته. أقولها وإجابة أمهات زرتهن مؤخرًا بدار العجزة في الرباط تعنُّ ببالِي. أغلبهُنَّ شكون وتحسرن، لكنهن لم يغدقن سوى الرضا على منْ جلبهنَّ إلى دائرة النسيان، لينتظرنَ الموت، وحيداتٍ معدماتٍ. أيَّام الفتى دُول، تتقلبُ وقدْ يصغرُ فيها كما قدْ يكبر، يُعتقل كما قدْ يعُود ليعانق الحريَّة، وحدُهن الأمهَات يملكن القدرة على أنْ يثبتنَ مرابطاتٍ، والواحدَة منهنَّ لا تخجلُ منْ ابنهَا، سجينًا كان فتحملُ إليهِ قفَّة الطعام وتصطفَّ في طوابيرْ الذُّل، أوْ مريضًا معاقًا، تنظفُه دون أنْ تعاف، من صغرهِ إلى كبرهِ، ولوْ سألتهَا عمَّا تخشَى أجابتكْ "أنْ أمُوت فأتركهُ بعدِي دُون سندٍ". ولأنَّ رياحًا تهبُّ بما لا يشتهِي المرءُ، فإنَّ إيقاع الحياة المعاصرة جعل من رؤيَة الأمِّ مغنمًا صعبَ المنال عندمغتربين، وفِي ذاك يكابدُ الأبنَاء، بالقدر الذِي تشقَى الأمهَات، ومنء مغربيَّاتنَا فِي هذَا الوطَن منْ ارتوتْ أعينهنَّ سنواتٍ قبلَ أنْ تكتحلَ بابنٍ لمْ يجدْ خبزهُ في الوطن ولا كرامته. لا راحَة للأمهات ما لمْ يستقمْ وضع الأبناء، فلا تتغزلُوا كثيرًا بحقوق النساء، فيومَ تحققُون سبل التنمية، ويدرسُ النَّاس ويجدُون منفذًا إلى الحياة غير مجارِي الانحراف والجريمة، تكرمُون المرأة، وتهدونهَا بسمةً وهيَ ترى فلذَة الكبد تشقُّ الحياة بنجاح، سعَادة الإنسان من سعادة الأم. وحدُهنَّ الأمهَات قدْ يشخنَ ويضحِين بالزيجة إذا ما ترملن، فيذبلن ويقمعن طبيعة الإنسان وغريزته، في سبيل صغيرهن، كيْ لا ينشأ ربيبًا مظلومًا؛ وحدُهنَّ الأمهات لا يعوضن، الحبيبات قدْ يتوالين، والأصدقاء قدْ يستبدلُون، والمَال ينقصُ في الأيَّام كمَا يزيد، لكنَّ منْ أينَ للمرء بمحيًّا باسمٍ يلثمُ تقاسيمه الطيبة، إذا لمْ يكن قيد الحياة على الأرض؛ وحدهُنَّ الأمهات يدركن بحدسهن، ضيق الحال بنا أوْ يسره، فيفهمن دُون أنْ ننبس ببنتِ شفة، ينكسرن لانكساراتنا، وتصيرُ أيامهنَّ وردًا إذا ما هي الدنيَا ابتسمتْ للأبناء. لمَّا كنتُ أهمُّ بكتابة شيء في دفتر أيَّام الصغر، كانتْ والدتِي تظلُّ على مسافةٍ منِّي فتتأمل، ويحصلُ كثيرًا أنْ ينفرجَ مبسمها بابستامة رضَا، تتأملُ القلم في يدِي، وإنْ لمْ تتعلمْ يومًا كيفَ تفك شفرات الحرُوف. أمَّاه؛ لنْ تقرئِي كلامِي هذَا، لكنْ بورِكتِ عيدًا، ولا عدمتُ، ولا كلُّ منْ على هذه الأرض من إنسان، فيضَ نبعك وكرم روحك، ونبلَ سريرتك. https://www.facebook.com/syphax.tassammart