حاذر! إياك ان يذهب بك عقلك إلى فهمِ أكثر مما يجب، لا تظنن أننا بصدد كتابة حول صناعة يابانية متطورة، استعمل عقلك المغربي، وناد على العامية المغربية لتفهم مغزى العنوان. إلى حذ الأن ما زلت تتساءل عن ماذا يتحدث هذا ؟! سأحدثك عن التكوين الذي تخضع له ارقى العقول المغربية في كليات الطب: تكوين الهياكل البشرية المعقدة. نحذرك كما نحذر انفسنا ان تقع في فخ التعميم، ما يسري على بعضٍ، لا يسري على الجميع، وما يسري في هذا التكوين قد يسري على تكوينات علمية ومدارس عليا اخرى. عنوان هذا المقال يقبل صنفين من القراءات، القراءة التي تنبني على الأصل اللغوي الفصيح لجملة "الهياكل البشرية المُعَقّدة"، وتلك التي ترتكز على اللغة التي يتداولها عموم المغاربة في محياهم اليومي: "الهياكل البشرية المْعْقدة". سنتحدث عن كلى الصنفين، وذلك في محاولة لإبراز وتحليل معظم الاشكالات التي يعاني منها التكوين الطبي بالمغرب. التكوين الطبي في المغرب، في ما يخص التكوين الأساسي (دبلوم الدكتوراه في الطب العام)، مؤطر ومنظم في شقه المرتبط بالتعليم العالي حسب مرسوم القانون رقم 282356 الصادر في 31 يناير 1983، والمحدد لنظام التدريس والامتحانات من اجل الحصول على دبلوم الدكتوراه في الطب، وفي شقه المرتبط بالقطاع الصحي ووضعية الطالب داخل المستشفيات الجامعية، بمرسوم القانون 2 91 527 الصادر في 13 ماي 1993. من الوهلة الاولى، ولا يحتاج الامر لكي تكون ذو عين ثاقبة لتدرك ان القانون الاول ناهز عمره 35 سنة، والثاني 25 سنة، ومع كل التطور الهائل الذي عرفه التكوين الطبي في العالم، مازلنا نخضع لقوانين وأنظمة تقادم عليها الزمن، لم تعد تواكب العصر الحالي، نظام وقوانين تتسم بالجمود وضعف المرونة، اصبح من الضروري اعادة النظر فيها، في انتظار مستجدات التعديل المرتقب العام الدراسي المقبل، هل سينفض الغبار عنها أم يزيدها ردْماً آخر؟ يمر تكوين الطبيب المغربي عبر ثلاث مستويات: المستوى الاول: المستوى الأساسي، يدوم سنتين، يمر عبر أربعة فصول، مقسم الى عدة وحدات (modules) في العلوم البيولوجية الأساسية ، والعلوم قبل السريرية، والعلوم السريرية (منهاanatomie, physiologie, sémiologie, biologie, biochimie, biophysique, psychologie, médecine sociale, statistiques )، لكي يجتاز هذا المستوى بنجاح، يتعين على الطالب النجاح في جميع الوحدات بدون استثناء بمعدل يفوق 10/20 لكل وحدة مع انعدام التكامل بين الوحدات. واذا ما قدر الله ولم يستوف وحدة واحدة في العام الثاني لكي يمر إلى المستوى الثاني، يعيد الكرة من جديد، يعيد عاما بأكمله بكل وحداته، يبدأ من جديد كأن شيئا لم يكن. وذلك دون الأخذ بعين الاعتبار لكل التبعات المادية الذي ستتحملها الدولة لإعادة تكوينه مرة أخرى، والتبعات المادية والنفسية للطالب أو الطالبة، ما يزف به في حلقة مفرغة، تلتحق بها آفات ومشاكل اخرى فيما بعد تندرج ضمن الإدمان والأمراض النفسية. أليس هذا تبخيسا لعمل الطالب؟ أليس هذا تبخيسا لقيمة زمن وعُمْرِ الطالب؟ أليس هذا قمة الجمود وانعدام الليونة في التنظير والتشريع؟ أم ان هذا ضروري لكي نكون طبيبا شديدا صلبا يقهر التحديات؟ مع العلم ان أبسط وأقوم الآراء تذهب في اتجاه الحفاظ على المكتسبات التي تحصَّل عليها، وإعطاءه فرصة اخرى ليعوض مالم يستطع استيفاءه. المستوى الثاني: يمر اليه الطالب او الطالبة مباشرة بعد استيفاء المستوى الأول، يدوم 5 سنوات، ويتوج بنيل دبلوم الدكتوراه في الطب العام. يتميز هذا المستوى بكونه يضم شقين من التكوين يخضع لهما الطالب خصوصا في شتى علوم الأمراض: تكوين نظري مبني على الدروس النظرية، وتكوين تطبيقي يرتكز على تداريب في مختلف مصالح المستشفى الجامعي. في الثلاثة أعوام الاولى من هذا المستوى، يخضع الطالب لهذين الصنفين بشكل يومي، التطبيقي صباحا، والنظري مساءا، طوال 11 عشر شهرا في السنة، يتخللها امتحانات في كل فصل، يجب فيه على الطالب استيفاء كل الوحدات والتداريب بنجاح من أجل المرور من عام الى اخر، بنفس شروط المستوى الاول، مع أفضلية امكانية المرور الى العام الموالي في حالة عدم استيفاء وحدة واحدة وتدريب واحد لا أكثر. أما العامين المتبقيين فيتم التفرغ فيهما للتكوين التطبيقي واجتياز الامتحانات السريرية ومناقشة اطروحة الدكتوراه من أجل نيل دبلوم الدكتوراه في الطب العام ليكون مجموع الاعوام سبع سنوات.المستوى الثالث: وهو مستوى التخصص، يبقى اختياريا، يمكن الولوج اليه عبر مسلكين، مسلك الطبيب الداخلي ( بعد استيفاء السنة الثالثة من المستوى الثاني ) او مسلك الطبيب المقيم بعد نيل دبلوم الدكتوراه في الطب العام، الولوج الى هذين المسلكين يتم عبر مباراة خاصة بكل مسلك، وكل مباراة لها شروط محددة سلفا. يتوج هذا المستوى بنيل دبلوم التخصص.قد تكون تُهت وتَعبت ومَللت في ظل كل هذه الشروط والأعوام والمتطلبات التي تم ذكرها، اسأل نفسك، ماذا عن ذلك الطالب الذي يخوض خوض الخائضين في هذا المجال؟ اشكالات هذه المستويات متقاربة ومتلاحمة فيما بينها، تتثمل اساسا في كون البرنامج التعليمي مضغوطا يضع الطالب بين المطرقة والسندان، يرتكز اساسا على الحفظ والاستظهار، وعلى كلاسيكية إلقاء الدروس النظرية، وضعف توافق التقييم مع المكتسبات، في برنامج زمني قد يُحمل فيه الطالب وزر ما لا طاقة له به، حسب مكتسباته القبلية ونوعية شخصيته، يلزمه التفرغ الدائم لمجال تكوينه على حساب تكوين ذاته ووعيه بمحيطه، يترنح فيه بين التعب والارهاق والتوتر والخوف والفرح، حالات نفسية تكرر باستمرار. ناهيك عن ضعف التأطير والتوجيه، واشكالية التراتبية والطبقية داخل المستشفيات الجامعية يُسحق فيها طالب الطب في قاعدة الهرم. ومع كل هذا لا تتفاجأ ان علمت ان دبلوم الدكتوراه الذي قد ينسيك كل هذا، ليس له من الدكتوراه إلا الاسم، ولا تعادل الدكتوراه الوطنية في شيء، لا تتفاجأ لأنك بوصولك الى هذه المرحلة قد تكون اصبحت حاقدا على كل شيء، قد غُيّر فيك الكثير منذ اول خطوة خطوتها الى أخر واحدة تخطها، ما يجعلك تتساءل: هل حقا دراسة الطب صعبة أم أنه اريد لها ان تكون كذلك ؟ في خضم كل هذا، ان استطعت ان تحلل ما تمر به، تدرك انك في صدد صناعة هيكل بشري مُعقد، تدرك انك انت المفعول به، تدرك انهم يريدون لك أن تدرك في كل شيء شيئا ما، تدرك انه واجب عليك ان تكون بقدْرِ ألة بالغة التعقيد من حيث قدراتك التحملية والعلمية، ان تكون بقدرة محرك رولز رويس أو الفيراري، تدرك أنه لا حيلة لك إن أهنت، أو عاتبوك أو استعملوك لسد خصاص أو عمل لا يدخل في إطار تكوينك، تدرك انه لا يجب عليك ان تفكر خارج الإطار، تدرك ان الاستعطاف والتبجيل واجب عند بعضٍ اذا اردت ان تجتاز الاختبار، تدرك ان كل تلك الكفاءات التي تتميز بها قد أُقبرت، تدرك في الأخير انك لم تعد تدرك شيئا. تكوين بهذه الطبيعة يجعلنا نضعه تحت المساءلة، هل هو المسؤول عن إخراج صنف يُعد المسؤول عن الصورة السلبية المعممة التي تطبع مخيلة المواطن المغربي عن الطبيب، الصنف "المْعْقّد"؟ أتحدث هنا عن صنف ولا اتحدث عن الجميع، اتحدث عن ذلك المتعالي الذي لا يعرف لأصول التواصل ونفسية المريض أصلا، أو ذلك الذي يعامل بقساوة وعلوية متسلطة، أو ذلك الذي يظن ان تكوينه يخول له ان يتكبر على الجميع، وان يعاملهم بدناءة، كأنه المختار أو من يقف الشفاء بين يديه طالبا رحمته، أو ذلك الشره الذي يتعاطى للرشوة، وأساليب اخرى من انعدام القيم، أو ذلك الذي مازال طالبا يظن انه قد بلغ العلى ... الى غيرها من الصور التي تطبع عقل المواطن المغربي الذي ينبني حكمه لهذا الميدان على المنظور الإنساني أكثر من الموضوعي. نطرح هذا التساؤل خاصة اذا اخذنا بعين الاعتبار ان التكوين الطبي لا يعطي الأهمية الضرورية لمجال التواصل ونفسية المريض بقدر ما يتم الاشارة لهما والمرور مرور الكرام، اللهم من شمر على ساعديه وكون نفسه على أساس مبادئه وخلفيته السيكولوجية. هل يمكن ان نعتبرها تصرفات نفسية انتقامية تنبني على تعظيم التكوين الذي خضع له، وانه لا يقبل أي مناقشة وعتاب فيها؟ هل هي تصرفات غير إرادية نتاج كثرة ضغط العمل وقلة الامكانيات البشرية واللوجيستكية بحكم ان الطبيب في الواجهة؟ هل هي نتاج هذا التكوين الذي يغرق الطالب في غياهب العلوم، يَخرُج منها بعد سنين طوال طالب ضعيف الوعي بمحيطه، ضعيف أمام العالم الخارجي، قدراته تقنية محضة؟ أم أنها تصرفات شخصية مرتبطة بنوع الشخص وخلفيات شخصيته ولا علاقة للتكوين بها، بقدر ما هي مرتبطة بالمجهود الشخصي؟ في نهاية الأمر، التكوين الطبي في المغرب، يحتاج الى إعادة نظر شاملة، يجب ان تكون اولوية التنظير فيها مركزة على الطالب اولا قبل أي فاعل اخر في الميدان، ان تكون القوانين والشروط اكثر ليونة وانسجاما مع متطلبات التطور الحالي والواقع المغربي، خاصة في ظل الحديث الحالي عن الاصلاح الجامعي واصلاح التكوين الطبي، في انتظار مستجداته، نتساءل هل كفاءات التعليم العالي الطبي قادرة على اخراج وتنفيذ تصور يأخذ بالتكوين الطبي المغربي إلى العالمية ؟ *طالب بكلية الطب والصيدلة مراكش