عاش خالد الناصري وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية وضعا لا يحسد عليه في الأسابيع الأخيرة، خاصة بعد أحداث تفكيك مخيم "كديم ازيك" على هامش مدينة العيون. وظهر الوزير وهو يخوض الحرب ضد الصحافة الاسبانية شبيها بمحمد سعيد الصحاف وزير الإعلام في عهد الراحل صدام حسين. طوال الندوات الصحفية التي يعقدها، يظهر مقاتلا ومدافعا شرسا عن سلامة الأداء السياسي والأمني الحكومي من أي شائبة. ويبدو صاحب الرأي الرصين والسديد في كل تصريحاته تلك، منفعلا حسب ما تمليه عليه حدة الاعتداء الصحفي ، و ممتعضا بسلوك الخصم الذي استخدم وسائل حرب صحافية لا أخلاقية و غير مهنية ( تشويه الحقائق من خلال نشر صور جرائم في غزة والبيضاء ، واعتبارها وقعت في العيون ، التضخيم في عدد القتلى في صفوف المدنيين...) و كلما غرق في التفصيل في الخلفية العدائية العنصرية التي تحكمت في تلك القنوات ، يُذكّر الرأي العام بالعلاقات الاسبانية المغربية التاريخية ، و يقوم بالإثناء عليها، موحيا بأن المؤامرة ليست مؤامرة الدولة الاسبانية بل هي مؤامرة الحزب الشعبي .( وهكذا تقلصت شعارات القضية الوطنية في المظاهرة المليونية لتقتصر على مواجهة بين دولة أو شعب ضد حزب واحد وبعض القنوات الصحفية) الاختلاف بينه وبين محمد سعيد الصحاف، هو أن الناصري يخوض الحرب في وضع مريح، يتناول فطوره في منزله أو في فندق رفيع النجوم ويطلع على الأخبار الواردة من صحافة العدو و يستلم ما استطاعت المخابرات المغربية اقتنائه من كواليسه وعند وقوفه أمام الصحافة المحلية أو الدولية ( القليلة جدا إن لم نقل الغائبة مطلقا) يتمسك بلغة دبلوماسية غالبا ما تبرز المغرب من الحمائم و أعدائه من الصقور، رغم ما يبديه من انكماش في الوجه وتكشير للأنياب ( ربما تكون تلك الأنياب هي أنياب الديمقراطية التي ذكرنا بها في برنامج حوار). لكنه وبحكم ما يؤطر البلاد دستوريا فهو لا يملك القدرة على القرار ، فهو ناطق باسم الحكومة ، و بما أن الحكومة لا تعرف لها إستراتيجية ولا تكتيك واضح في ما يتعلق بالقضية الوطنية ، فسيستخدم السيد الوزير ذكائه السياسي وتجربته "الشيوعية" في إطلاق تصريحات نارية أحيانا ( فارغة المحتوى، وتبدي ضعف الدولة أكثر من قوتها) لكن ليست ضد دولة العدو بل ضد صحافته. بينما الصحاف، فلا يعرف له مكان للنوم ( بل يخال لك أنه لا ينام ) و لا أين يتناول فطوره في تلك الأيام الرهيبة، ومن أين و كيف يستقي أخبار العدو في وقت كان هذا الأخير ينشر الموت في ربوع أرض العراق. كان الصحاف طوال الحرب متمسكا بزيه العسكري، و يبدو في تقاسيم وجهه وحركة شفتيه وجحوظ العينين أنه مستعدا للمواجهة الميدانية حتى لشهادة. أما ندواته الصحفية فكان يعقدها تحت رعب صفارات الإنذار، ودوي القنابل والرصاص الفتاك. لكن المثير في طريقة أدائه، والتي أصبح ظاهرة الحرب ومن غرائبه، هو اللغة التي كان يستخدمها في المواجهة الإعلامية. فهي لغة المواجهة الشرسة، ويقال أنه تمت إقالته كوزير للخارجية العراقية لأنه سليط اللسان. كان شرسا في اختيار النعوت المناسبة لطبيعة العدو الهمجية، و قد تمكن من إدخال نعت "العلوج " إلى قاموس لغات العالم كما هو بالعربية . كان يرعب البيت الأبيض، حتى أن بوش صرح أنه كان يتابع مؤتمراته الصحفية بشغف. و طبعا كان إحساس المتتبع لتصريحاته و طريقة أدائه، وإجابته الدقيقة على أسئلة الصحافة ، أنه يشكل حكومة لوحده، ولا ينتظر قرار من أحد ، واستطاع أن يعبر فعلا عن كرامة وأنفة بلاده، بغض النظر عن الهزيمة القاسية التي عرفتها. وطبعا يأتي هذا الاختلاف نتيجة اختلاف طبيعة الحرب التي يخوضانها. الأول يخوض حربا إعلامية محضة و ضد صحافيين لا يملكون إلا الأقلام والكاميرات ومسجلات الصوت، و ضد منظمات حقوقية في داخل المغرب وفي خارجه. بينما الثاني كان يخوض حربا إعلامية عسكرية، و أن أصحابها يتوفرون على ترسانة عسكرية قوية من الدبابات والطائرات والقنابل و المشاة...و كان ينتظر في كل دقيقة أن يخترق صدره رصاص "العلوج" و "الأوغاد" كما سماهم ، ومع ذلك فقد بقي مرابطا في مكانه طوال مدة الحرب إلى آخر رمق، إلى أن اختفى مع تمكن العدو من الاستيلاء على أهم المواقع في العراق. والسؤال في هذه المقارنة التي تبدو غريبة نوعا ما هو: هل استطاع الناصري أن يضع موقف البلاد في متناول الشعب الاسباني و يؤثر في صحافته؟ هل استطاع أن يكشف للرأي العام الدولي زيف ادعاءات العدو، و يقنعه بعدالة قضية الوحدة الترابية؟ إنه سؤال ربما لا يجعل المرء يجتهد كثيرا لمعرفة الجواب عنه على الأقل في اللحظة الراهنة، بحيث أن الصحافة تلك مازالت مستمرة في منع وصول أي خبر عن المغرب إلى الشعب الاسباني ، و مستمرة في تعميم وجهة نظرها على مستوى الرأي العام الدولي ، وأن الحزب الشعبي ومؤسسات الدولة لم تتوقف عن طرق أبواب المؤسسات الدولية الفاعلة في صياغة الرأي العام الدولي لتسويق وجهة نظره حول أحداث العيون و القضية الوطنية بشكل عام. لقد توالت الأحداث بشكل سريع لم تستطيع فيه إدارة القضية الوطنية أن تواكبها بعمق ، وأصبحت تقوم برد فعل انفعالي يخلوا من أي إستراتيجية تمكن المغرب بإثبات تعاطيه الأمني السليم مع مخيم لعيون "الخالي من الانتهاكات الحقوقية" ، و نحن نقول ذلك ومدركون أن هناك واقع عدم التكافؤ بين الإمكانيات السياسية والمادية الاقتصادية والعسكرية بين المغرب واسبانيا ، وقد تعامل المغرب بشكل غبي عندما حاول عزل سلوك الصحافة الاسبانية عن الموقف السياسي العام للدولة ، إلى أن فوجئ بقرار مجلس الشيوخ بإدانة المغرب وقبله الاتحاد الأوروبي. لقد أشار العديد من الباحثين في العلاقات السياسية و من الصحافيين، تورط مباشر للدولة الاسبانية في ما قامت به صحافتها ، وركز غالبيتهم على أن الحل الوحيد لمنعها من المزايدة في ملف الصحراء هو تنظيم الهجوم من خلال طرح مختلف الملفات العالقة والتخلي عن لعب دور الدركي في المنطقة الحامي لأوروبا في ما يتعلق بما سمى بالإرهاب والهجرة السرية وغيرها. وليس الدفاع من موقع المتشكك في عدالة قضيته ( الوحدة الترابية بما فيها مليلة وسبتة والجزر). وحمدا لله فقد استطاع موقف مجلس الشيوخ الاسباني، أن يؤجج مشاعر"شهامة "مجلس النواب ومجلس المستشارين والحكومة على حد السواء، ومكنهم من تعريج المواجهة الدفاعية إلى المواجهة الهجومية الشاملة (على الأقل على مستوى الخطاب) من اجل إعادة النظر في الملفات العالقة بين البلدين.على الاقل. وهنا لا بد أن نشير أن خطاب الحكومة وجلسات الغرف وما طغى فيها من وطنية وشهامة تفوق المنتظر هي لحد الساعة وعود فقط ولا تعني الشيء الكثير في الصراع الدائر بين المغرب و أعداء الوحدة الترابية. و كان من المفترض أن تنطلق منذ عقود تلت . و سنرى كيف سيتم تجسيد تلك المواقف الشجاعة و تلك الروح التي تحكمت فيهم أثناء الوقوف أمام ميكروفونات الغرف. رغم أن الحكومة الحالية عاهدتنا على دغدغة عواطف ، واستعادة الحنين إلى الضعف والذل الذي يتحكم فيهان كلما قامت الدولة الاسبانية بإلقاء تصريح تجفيف من خلاله دموع دولتنا المتباكية. ومن المفترض بعد هذين جلسات البرلمان و تصريحات الحكومة أن تنعكس في طبيعة خطاب الناطق الرسمي باسمها، لينهي مع خطاب الضعف الذي تحكم في ندواته، ويثبت قدرته على ذل العدو على الأقل على مستوى الخطاب. آنذاك سيكون له الشرف أن يقارن مع محمد سعيد الصحاف. كان الصحاف يواجه العالم، بما فيه أقرب المقربين من أنظمة عربية خذلت شعوبها وهويتها القومية ، وأنظمة امبريالية تسارعت لاقتسام كعكة العراق البترولية. و مع ذلك، كان يستخدم أسلوبا يذل العدو و يستهين بقدراته الاقتصادية والعسكرية، ويثبت ضعفه الميداني. بينما وزيرنا يقدر ويحترم الدولة الاسبانية، إلى أن تلقى منها صفعة مؤلمة من خلال قرار مجلس شيوخها. فهل سيمنحنا السيد الوزير فرصة المقارنة بينه وبين المقاوم محمد سعيد الصحاف في المستقبل القريب؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام، رغم أن قناعتنا تقول أن ذلك سيكون خارج منطق التاريخ. وأن من لدغه الثعبان يخاف من الحبل ،حسب المثل العشبي المغربي "اللي ضربو لحنش يخاف من الحبل".