كان يعلم منذ نعومة أظافره أنّه سيستكمل مشواره الدراسيّ بالديار الإيطاليّة بفعل تأسيس مداركه على أداء مؤسسات البعثة الإيطاليّة بالمغرب.. ولذلك لم تكن أمامه هواجس كبرَى مقترنة بالقدرة على الاندماج وسط بيئة الاستقبال المنتظر الالتحاق بها ولا فهم ثقافة البلد الأوروبي الذي سيعيش فيه لردح من الزمن. مولاي زيدان العمراني يتوسط اليوم فضاء التكوين والبحث الاجتماعيّ والنفسي والفلسفي بواحدة من كبريات الجامعات العالمية وسط الشمال الإيطاليّ، منخرطا في تأطير أكاديميّي المستقبل دون إغفال لمساره الذي استهلّه من الدّار البيضاء ولا لانتمائه الثقافيّ المزدوج الذي أكسبه مهارات راكمها من خطوات عبور للبحر الأبيض المتوسّط أكثر من مرّة. تكوين إيطالي خضع مولاي زيدان العمراني، المغربي البالغ عقده الحياتي الخامس، لتكوين مدرسي إيطالي حين مقامه بالمغرب ما بين مدينتي الدّار البيضاء وكذا طنجة.. مستفيدا من توجّه والديه للاستثمار في أبنائها عوضا عن توجيه مواردهما الماليَة لاكتساب عقارات شبيهة بما حققه أبناء جيلهما. ويعتبر العمراني أن رحيله إلى إيطاليا، وبصمه على مسار ينيف عن ال30 عاما وسط هذا البلد، لم يكن بفعل الاختيار بقدر ما اقترن بالرغبة في مواصلة المسار الذي قرره له والداه.. ويعلق على ذلك بقوله: "ولجت تمدرسا وسط مؤسسات البعثة الإيطالية بالمغرب، وسط ما يتطلبه ذلك من مصاريف تقترن بسنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وبالتالي كانت هجرتي ثقافية بعيدة عن الهواجس السياسية والاقتصادية". بوابة الصيدلة "لم يكن من السهل أن تغادر المغرب أعوام الثمانينيات التي شهدت رحيلي عن بلدي الأصل، وذلك لا يقارن بما عرفه الوطن من تطورات لاحقة وصلت إلى ما يعرفه الحين من حرية للتجوال بعموم المعمور انطلاقا منه" يضيف مولاي زيدان قبل أن يسترسل: "كان الخروج من المغرب متاحا لقاصدي كليات غير متوفرة بالمملكة، ما دفعني للتسجيل بكليّة للصيدلة في إيطاليا حتّى يسمح لي بالمغادرَة.. وهذا التخصص الذي انتميت له شكلا لا علاقة لي به ولم يهمّني في أي يوم من الأيام". تعطّش العمراني لاكتشاف البيئة الأوروبية دفعه، بإذكاء من صغر سنّه أيضا، إلى عيشة التجوال بين عدد من العواصم والمدن الأوروبيّة.. مقدما على احتراف مهن بسيطَة بهدف التمكّن من توفير المصاريف التي تستلزمها عيشته الجديدة وسط الغربة التي انخرط فيها.. ثمّ الوفاء بواجبات الدراسة بتخصص اللسانيات الذي أقبل عليه وسط جامعة ميلانُو. هجرة مضادّة تمكّن زيدان من نيل الإجازَة الجامعيّة، في مرحلة أولى، مع مواصلة اكتساب الكفاءات والخبرات الحياتيّة المقترنة بالهجرَة.. راميا إلى معاودة تصريف كل هذه المعطيات ضمن هجرة مضادّة تقوده صوب المغرب من أجل خوض تحدّ مهنيّ يقترن بما تلقاه من تكوينات. اشتغل العمراني بالمجال السياحيّ انطلاقا من إيطاليا، وقد أضحى مراسلا لشركة "فرانكُو رُوسُو" المختصّة بذات المجال، قارنا أداءه بدول شمال إفريقيَّة أبرزها مصر وتونس.. وهو ما أتاح له العودة صوب الدّار البيضاء من أجل العمل في ذات القطاع.. "لقد واجهتني صعوبات كبيرَة ضمن هذه الخطوة، ما دفعني لمعاودة حزم حقائبي والتوجه من جديد لإيطاليا بغية تعميق دراستِي ونسيان هذه المحطّة المؤلمة" يقول مولاي زيدان العمراني الذي أفلح في نيل الدكتوراه بذات تخصصه الأكاديميّ. أستَذة جامعيّة بحلول سنة 1995 تقدّم العمراني بطلب مشاركة في مباراة للتدريس الجامعيّ كانت قد أعلنت عن إجرائها جامعة بُولُونيَا، وبعد توفقه في تخطّيها بتفوّق غدا أستاذا بكليّة الترجمة المنتمية لذات المؤسسة الأكاديميَّة بشمال الدولة الإيطاليّة.. فاتحا لنفسه نافذة مهنية جديدة يطلّ منها على المجتمعين الإيطالي والأوروبي. وعن المراحل اللاحقة يكشف زيدان أن التطور أفضَى إلى التحاقه، في ذات التخصّص، من أجل التدريس بجامعة بَادُوفَا، مع تركيزه في الأبحاث التي انخرط ضمنها على خبرته الكاملة في مجال الهجرة، مدققا في الاندماج وسط المجتمع الإيطالي وكذا الحوارات الممكنة بين الديانات. "جامعة بادُوفَا تعدّ عريقة كجامعتي أوكْسفُورد والقرويين، وهي تاريخية تنازع الأخرتين أحقية حمل لقب أول جامعة رأت النور في العالم" يقول العمراني الذي يشتغل بقسم العلوم الاجتماعية والعلوم السيكُولوجيّة التطبيقيّة والفلسفة.. ويسترسل: "لنا تجربة اوروبية فريدة بلغت عامها الثالث ولها نتائج طيبة، حيث تقترن بأول ماجستير عن الإسلام الأوروبي، لا الإسلام بأروبا.. ولنا حاليا شراكات مع أكاديميات متوسطية، حيث نحاول تقييم ودراسة الإسلام الإيطالي بحكم كونه الدين الثاني بالبلاد وفقا للمعطيات الإحصائية". تفاؤل ومقترح "أنا مدين للحظ ومواقفي تفاؤليّة" يضيف مولاي زيدان وهو يقر بأن مسار لم يكن خارجا عن الإقصاءات والعذاب والتضحيات وفقدان الآمال وتوسط الإحباطات.. "شرعت مرارا في بناء وضعي من جديد، وذلك ككل مسارات المهاجرين" يردف نفس المتحدّث. ويرى العمراني أن المنخرطين ضمن تسارات الهجرة الاقتصادية تعدّ معاناتهم أقل ارتباطا بالشقين النفسي والثقافي من شخصياتهم، بينما يعتبر أن حالته، إلى جوار العديد من الحالات المماثلة التي أتى الرحيل إليها بغرض الدراسة، قد جعلته يتأذّى من توسط نظام عيشة إيطالية لم يكن يعترف بالآخر ولا يعرف عنه شيئا بالمرّة، وهو ما أفرز انعكاسات سلبية لاحت بجلاء على الانخراط في الدراسة ومحاولات نيل فرص لبناء المستقبل، إلى جوار عراقيل اقترنت بمقابلات مهنية لتجعلها معاقبة لكل ما هو أجنبي. "طموحي يقترن بتفعيل مشروع يهم الشباب متعددي الثقافات، سواء كانوا مزدادين بإيطاليا وأوروبا أو وفدوا على هذه البيئة في سن مبكّرة.. والفكرة الأساس منطلقها دفع هؤلاء إلى الاستثمار في ذواتهم ومكانتهم حتّى لا يتملكهم الإحساس بالغربة في المستقر وبالبلد الأمّ.. والهدف هو جعل الثقافة المزدوجة، او المتعدّدة، رأسمالا قابلا للاستثمار البشري" يقول زيدان. أمّا عن الحالمين بهجرة مستقبليّة تروم تحقيق النجاحات وسط الغربة خارج المغرب فيعتبر العمراني أن الوعي ينبغي أن يستحضر الصعوبات الاقتصادية التي أضحت تهمّ الدول المشتهرة باستقبالاتها للمهاجرين، زيادة على تحسن الأوضاع بالمغرب رغما عن كم المشاكل والصعوبات التي ما تزال قامة.. ويضيف مولاي زيدان ضمن لقائه بهسبريس: "يمكن لهؤلاء أن يحاولوا التشبث بتحقيق النجاح في المغرب، ذلك أن الإمكانات في أوروبا تعادل، ضمن الظرفية الحاليّة، ما يتوفر بالمغرب.. الأوضاع تغيّرت ولم تعد النسبة الكبرى من الهجرة تقترن بالجوع كما كان الأمر في الماضي، وذلك بالرغم من بقاء بعض جيوب الفقر في الوطن.. أمّا المصرّون على الهجرة فهم مدعوّون للتوفر على مشاريع واضحة المعالم إلى جوار قدرات كبيرة للبصم على النجاح في تحقيقها".