حملت حقيبة يدي أستعد لمغادرة عيادة الطبيبة حين وجدتها تسألني بلهجة لم تخل من أسى: هل سمعت بالمسلمين الذين قتلوا بأمريكا؟ -ماذا؟ في أمريكا؟ أمريكا أم فرنسا؟ - لا، أمريكا شخص أطلق الرصاص على ثلاثة مسلمين شباب في الجامعة والمصيبة أن المحطات التلفزيونية تجاهلت الأمر وقفت مشدوهة أتأمل كم المعلومات المستفزة التي تلقيتها دفعة واحدة وفي لحيظات، وقبل أن أنطق وجدت طبيبتي تلف حاسوبها المحمول وتقول لي: -تعالي اقرئي الخبر على فيسبوك كان الخبر بالفرنسية ولا أذكر الموقع الالكتروني الذي نشره، قرأت العنوان ولفتني فيه وصف القاتل ب"الملحد"، سرحت بفكري إلى واقعة شارلي، حيث كانت أمريكا تعطي على صفحات كبرى جرائدها دروسا لفرنسا في احترام معتقدات الاخرين، وفي إقامة مجتمع يحترم التنوع الديني. طلبت من طبيبتي أن ترسل لي برابط الخبر، وحين عدت إلى المنزل أخذت حاسوبي وبدأت أبحث عن حقيقة ما وقع، وكل ما وجدته هاشتاغا على تويتر يحتج على صمت وكالة رويترز، وقناة سي ان ان الامريكية، وقناة البي بي سي البريطانية عما حدث. في مايو 2014، وافق مديري الأمريكي في القسم الرقمي لقناة الحرة وراديو سوا على فكرتي في إنتاج عدد من حلقات الفيديو تحت عنوان"أمريكا في خمس دقائق"، أخبرته أني كامرأة ولدت ونشأت بالمغرب، ودرست الإعلام الرقمي بالسويد، وهاجرت إلى كندا، وحاضرت في عدد من دول العالم، قبل أن تطأ أرض أمريكا، تعتقد أن ما يهم القارئ العربي ليس ما يقع ببلده بقدر ما يهمه ما يقع في أمريكا الأخرى، أمريكا المواطن الكادح. وافق المدير، وكنت متحمسة لتقديم شيء جديد وغير معهود عن أمريكا التي لا نعرف، قبل أن أكتشف أن إعلام أمريكا لا يشمل بالحب كل المواطنين الأمريكان، وأن إعلام أمريكا لا يحب إلا أولئك الذين يظهرون أمريكا في صورة الجميلة القوية، وليس صورة الضعيفة والشبيهة بالأخريات. بدأت الحكاية حين اقترحت على المدير أن أبدأ أولى قصص الفيديو ببائعة الجرائد التي كنت ألتقي بها يوميا بمحطة مترو سبرنغفيلد بولاية فرجينيا، لأجده يسألني: -لماذا هي؟ -ولم لا هي؟ -نريد قصة مستفزة ترفع من الإقبال على موقعنا مثلما كان الأمر مع أميناتو وأميرتكم -لكن هذه القصة تدخل في "حقوق المرأة" و"الأقليات" التي قلت إنه علينا التركيز عليها -نعم لكن ما رأيك في تقرير فيديو عن إمام واشنطن المسلم والمثلي جنسيا؟ نظرت إليه بعينين غاضبتين وفم مزموم، وأجبته متظاهرة بالهدوء: -اسفة لن أنجز تقريرا في هكذا موضوع لا موقف لدي ضد المثليين لكني لن أسيء للمسلمين صمت المدير وكأنه تذكر أن أكثر الأشياء التي ترفض أمريكا الجميلة الكشف عنها في وجهها القبيح هو زيف احترام التنوع الديني في بلدها، فسألني في محاولة لتغيير الموضوع: -لم لا تنجزين تقريرا عن إحدى النائبات في الكونغرس؟ -لأن الإعلام يتحدث عنهن كثيرا ولا أظن أنه سبق للإعلام أن منح فرصة لسيندي بائعة الجرائد لتتحدث عن نفسها -لكن لم أنت مهتمة بسيندي بائعة الجرائد؟ -لأنها تذكرني ببائعة الخبز في بلدي المغرب كان ردي هذا مزعجا، فكيف تشبه نساء أمريكا القويات بنساء المغرب المستضعفات في نظر المدير الأمريكي؟ لم يناقشني كثيرا، فرغم أنه كان عصبي المزاج، إلا أنه كان يعرف أني مجادلة قوية، وأنه ليس لدي شيء لأخسره أو أخاف عليه حتى يتم إجباري على التزام الصمت كما الاخرين، لكنه أيضا كان يعرف أنه ومساعدوه في قسم التحرير قادرين على ترك الامور التي لا يرضون عنها تنجز، لكن لا تنشر، وأنه يكفي أن يقفل عليها باب "الصمت الإعلامي" حتى تنسى. كان يوما مشمسا وباردا ذاك الذي استوقفت فيه سيندي، كانت تلقي كعادتها تحية الصباح على المارين إلى محطة المترو وتمدهم بنسخ من الصحف المجانية، حين اقتربت منها وقلت وأنا أنظر إلى الورقة التي تلصقها على ثوب العمل الأصفر ومكتوب عليها اسمها: مرحبا سيندي أنا شامة درشول صحفية وأريد أن أجري معك حوارا، هل تسمحين؟ بدت سيندي متفاجئة، طلبت مني أن أنتظر للحظة، ذهبت إلى زميلها الذي كان يوزع الجرائد في المكان الاخر من المحطة، حدثته للحظات، التفت إلى جهتي، وربما بدا له مظهري غير مشكوك فيه فتحمس إلى أن يترك مهمة توزيع الجرائد ويأتي مع سيندي إلي، كان مثل سيندي، امريكيا أسود، قصير البنية، لكنه بدا عجوزا، وأقل نشاطا من سيندي، وأكثر حزنا، ثم سألني أكثر سؤال كنت لا أجد له جوابا في أمريكا: -في أي وسيلة إعلامية تشتغلين؟ كانت مؤسسة الحرة وراديو سوا ممنوعان من البث في داخل أمريكا باعتبارهما وسيلة إعلام دعائية أو ما يعرف بالقوة اللاعسكرية، لذلك أخبرتهما أني أعمل مراسلة لمؤسسة عربية، ولم يبد زميل سيندي مصرا ليعرف أكثر عن لغة لا يعرف أن أهلها إلا القليل جدا. أجريت اللقاء مع سيندي، أخبرتني أنها أم لخمسة أطفال، وأنها تكد وتجتهد من أجل إعالتهم براتبها الزهيد الذي تتقاضاه من المؤسسة التي تشتغل بها، كانت في حديثها لا تختلف عن أية امراة تقاتل من أجل العيش، ولا عن أي أم تخرج للعمل في الصباح الباكر من أجل أطفالها، وحين سألت زميلها عن رأيه في زميلة عمله سيندي قال لي: "لقد أصبحت عجوزا وحيدا منذ أن توفيت صديقتي، لكني بحاجة للعمل من أجل تأمين حاجياتي، وحين أمرض، أو أعجز عن المجيء للعمل أتصل بسيندي فتتولى العمل مكاني حتى تتحسن حالتي وحتى لا يضيع عملي ويذهب لشخص اخر أكثر نشاطا والتزاما". كان الرجل يتحدث ورائحة الكحول تفوح منه، بدا منهكا وعاجزا في حين بدت سيندي أكثر تفاؤلا وثقة، نزعت عن فمها الغطاء الأسود الذي كانت تحتمي به من برد الصباح فبدت لي أسنانها المتساقطة، ومع ذلك كانت ابتسامتها جميلة حتى بنصف أسنان. عدت إلى المكتب، وكتبت التقرير في وقت قياسي، اطلع عليه مديري الأمريكي، وقرأه رؤسائي العرب في التحرير وأثنوا عليه، لكنه لم ينشر يوما، فأمريكا الجميلة لا تحب الحديث عن امرأة سوداء تنهض باكرا لتبيع الجرائد وتعيل براتبها خمسة أطفال، أمريكا الجميلة لا تحب الحديث عن رجل أسود عجوز مريض سكير، أمريكا الجميلة لا تحب الحديث عن هؤلاء كما لم تحب الحديث عن الشبان الثلاثة الذين قضوا على يد أمريكي فقط لأنهم مسلمون.