في واشنطن التقيت به، كنت أحضر لقاء فنيا خلال مهرجان السينما اليهودية، حين تقدم جوشوا نحوي وقال: "مرحبا، أنا جوشوا وأنا مثلك مغربي". حدثني جوشوا لما يقارب الساعة عن جدته ووالده المغربيين، وعن هجرتهما في بداية الستينات لأمريكا، ولقاء والده بوالدته البولندية على أرض العم سام، لكن الوالد لم ينس يوما جذوره المغربية، لذلك حين بلغ جوشوا الابن سن ال16 أخذه إلى المغرب ل"يصل الرحم" مع وطن الأجداد. تعلق جوشوا بالمغرب، فنهل من تاريخه، وحفظ جغرافيته، واستكشف تنوع سكانه، وحاول في زياراته المتتالية إلى المغرب أن يتقن لسان أهله بالمغربية والامازيغية والعربية. حكاية جوشوا الامريكي مع المغرب، سوف يكملها لي في لقائنا على دعوة غذاء وجهتها له ذات جمعة، وحين نقول الجمعة نقول الكسكس حتى لو كان المكان مطعما مغربيا بولاية فيرجينيا الأمريكية. كان جوشوا سعيدا وهو يلقى ترحيبا من صديقي عزيز، صاحب المطعم، كان جوشوا مصغيا وأنا أحكي له تاريخ الكسكس، وأني حين كنت طالبة علم اجتماع أخبرنا أستاذ سوسيولوجيا الدين أن عادة أكل الكسكس يوم الجمعة ترجع إلى أن المغاربة اليهود كانوا يحضرونه استعدادا ليوم السبت المقدس الذي تحرم فيه ايقاد نار المطبخ. في حديثي انتبهت أن جوشوا يرتدي قلادة تتدلى منها"خميسة" سألته"هل تعرف إلى ماذا ترمز؟"، أجاب مبتسما"نعم يد فاطمة"، وحين أزف موعد الرحيل قال لي جوشوا"الليلة سأبدأ طقوسي الدينية استعدادا ليوم السبت". كان جوشوا يهوديا متدينا، لكنه كان متسامحا كفاية لأن يرتدي يد فاطمة، ويتقاسم طبق الكسكس مع مسلمة، ويقول لها وهو يودعها "اليوم أشعر أن لي أختا اسمها شامة". كان اخر يوم ألتقي فيه بجوشوا، تركت أمريكا، ولم يترك هو عادة التردد على ذات المطعم المغربي، ولا ترك عادة التواصل معي كلما حلت بالمغرب مصيبة، أو كان بالمشرق مصائب، فجوشوا طالب العلوم السياسية في إحدى أرقى جامعات واشنطن يعشق قراءة الواقع من تاريخه، وكلما شاركني حدثا منه، قال ضاحكا "إن السياسيين يغيرون كل شيء حتى الدين". جوشوا، كان دوما مرحا، مبتسما، مقبلا على الحياة، لكن هذه المرة كان مرحه قليلا وحزنه أكثر، كان السبب واقعة شارلي، والسجال القائم بين المسلمين واليهود مع أن من أحدث الإساءة هم صحفيون يتفاخرون بإلحادهم. بعث لي جوشوا على انبوكس فيسبوك قائلا "لقد قللت من تواجدي الفيسبوكي، العالم أصبح كئيبا، والأمر يحزنني"، كان ردي أن الناس أغبياء بما يكفي حتى يجعلوا هذا العالم مكانا تعيسا باسم دفاعهم عن الله، وهم يرفضون الاقرار ان الله لا يمكن ان يقبل ان يؤذي احد الاخر، فمابالك ان يؤذيه بذريعة الدفاع عنه. ولدت لعائلة مغربية مسلمة محافظة، جدي لأبي كان فقيها في وزان، والدي كان يخبرنا عن محاسن معارفه اليهود، جدتي لأمي كانت في صلاتها تدعو بالخير للمسلمين والنصارى واليهود، لذلك كانت والدتي تغضب إن سمعت أحدهم يلعن اليهود. ذات يوم، زار منزلنا صديق والدي المسلم رفقة زوجته اليهودية، كانت مغربية، كانت ترتدي جلبابا تقليديا مثل الذي دأبت والدتي المسلمة على ارتدائه، أذكر أني كنت أتأملها كثيرا، كانت أول مرة ألتقي فيها بيهودية، كانت جميلة، وكنت أتساءل ما وجه الشبه بينها وبين القردة والخنازير كما يصف خطباء مكة اليهود. لم يكن خطباء مكة وحدهم من يسيؤون لليهود، ويخبرونا شيئا مخالفا لما كان أهلي يخبروني به عنهم، كانت المدرسة تنقل إلينا أشياء سيئة عنهم، كانت الافلام المصرية تصورهم أنهم بخلاء جشعون، كان الاعلام يخبرنا عن دمويتهم، كان المصري سليم العوا في حوار على الجزيرة يقول "يقولون ان اليهود الذين ذكروا في القران او يهود اسرائيل ليسوا هم يهود العالم لكني اقول ان اليهود هم اليهود هم مجرد قتلة". كنت محتارة بين يهود الإعلام، واليهود الذين حكى لي أهلي عنهم، وحين رحلت إلى واشنطن، التقيت منهم الكثير، جيسيكا اليهودية المغربية الفرنسية عانقتني بحرارة حين عرفت أني مغربية، ميشا اليهودية التونسية الأمريكية دعتني إلى وجبة عشاء، وشارل دحان ممثل الجالية اليهودية المغربية بواشنطن كان خير سند لي حين أساء لي بعض"المغاربة المسلمين في واشنطن". لم أكن لأترك عقلي للسياسة، وللإعلام يفعلوا به ما يشاء، يوجهوه لكره اليهود حين يشاؤون، ويدعون إلى التعايش معهم حين يشاؤون، كنت دوما أذكر نفسي أنه حين طرد المسيحيون المسلمين من الأندلس طردوا معهم اليهود، مر التاريخ، وأصبح اليهود والمسلمون أعداء، وباتت المسيحية تقدم نفسها وسيطا للديانتين، وحين وقعت أحداث شارلي، تحول اليهود والمسلمون إلى لعبة في يد أتباع ديانة جديدة"الملحدون"...كانوا يعرفون أن المسلمين واليهود لازالوا الاكثر تشبثا بديانتيهما، كانوا يعرفون أن المسيحية وبعد تاريخ من الصراع لاسقاطها لن تقدر على الدفاع عن نفسها بنفس الشراسة التي تدافع بها اليهودية والاسلام عن قيمهما. لم أكن لأسمح لنفسي بالوقوع في "فخ الايديولوجيا الدينية"، لذلك حين تلقيت من جوشوا رسالة بعد واقعة شارلي، أحسست أن هناك يهوديا يرفض مثلي انا المسلمة أن اكون لعبة في يد صناع القرار، أن اكون بديانتي مجرد وقود لمعركة اخرى من المعارك الغبية التي يخوضها الانسان ضد اخيه الانسان، ولا تزيد هذا العالم إلا تعاسة. كتب جوشوا رسالة حب، نصا قصيرا كتب بالعربية من يهودي إلى اصدقائه المسلمين، كتبه بنفسه وبلغة لم يمض على تعلمه لها إلا بضعة أشهر، ومع ذلك اختار أن يكون أول نص يكتبه رسالة حب إلى المسلمين في وقت توجه فيه سهام الكراهية ضدهم. قرأت النص، ثم سألته "جوشوا، أريدك أن تحول النص إلى رسالة مقال، اعرف ان عربيتك ليست بعد بالقوة لكتابة مقال لكن اكتبه بالانجليزية وسأتولى ترجمته وسأوصله لهسبريس من أجل نشره، أريدك أن تخاطب المسلمين بلغتهم، وأن يقرأوا لخطاب يهودي لم يعهدوه...أريد أن يتوقف المسلمون على أن يكونوا أتباعا وأن يجعلوا المحبة خطابهم". رحب جوشوا بالفكرة، أخبرني أنه سوف يكتبها في الحين، وبعد ساعتين بعث لي بها، بقيت ساهرة على ترجمتها، وبقي هو حريصا على أن يعرف رأيي، وحين أنهيت ترجمتها، كتبت له على انبوكس فيسبوك"لقد كنت أترجمها وأنا أذرف الدمع...لقد أبكيتني"، رد علي جوشوا"وأنا سعيد بذلك". كان جوشوا يعرف أني أتجاوب بالدمع مع أي شيء ألمس فيه حبا وصدقا، وكان جوشوا اليهودي صادقا في حبه للمسلمين. أرسلت المقال إلى هسبريس، وكان ردهم "نحن مؤسسة إعلامية لا تتردد في نشر ما يرأب الصدع ويجعل هذا العالم أجمل". شاركت رد هسبريس مع جوشوا، كان فرحا بشكل كبير، وكنت أكثر فرحا منه، أحسست أن ثلاثتنا نطبق الحديث النبوي"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذاك اضعف الايمان"، ونحن ثلاثتنا اخترنا ان نغير المنكر باليد، واللسان، والقلب، منكر لعن اليهود، ووصفهم بالقردة والخنازير، ومنكر الاساءة للمسلمين ووسمهم بالارهابيين.