حطم تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام " داعش "، رقما قياسيا جديدا في الوحشية بعد حرق معاذ الكساسبة حيا. وصدم العالم من هول انحدار هذا التنظيم في غياهب الهمجية وعصور الظلام. وتعالت الأصوات، هنا وهناك، معلنة أن هذا التنظيم بعمله الهمجي الرهيب قد وقّع على بداية نهايته. فما هي فرص تحقق النهاية المتوقعة القريبة لداعش؟ نشأت الأيديولوجية والفكر الذي يتبناهما تنظيم داعش، تبعا لتطورات سياسية بدأت منذ عقود، بتخطيط من الأسرة الحاكمة في المملكة العربية السعودية كوسيلة لاستمرار حكمها الاستبدادي. وكانت البداية مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران. هذه الثورة التي ألهمت الكثيرين، وأعطت الأمل للغاضبين بإمكانية تحقيق ثورة إسلامية مشابهة في المملكة العربية السعودية. وأمام هذا التهديد المحدق بلور النظام السعودي إستراتيجية لمواجهة الخطر الثوري القادم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وما زاد من هذا التخوف، الرغبة التي لم يكن يخفيها الإمام الخميني في تصدير ثورته لبلدان الجوار العربي. وكان رد النظام السعودي ذو شق عسكري وآخر أيديولوجي. الشق العسكري تمثل في البحث عن مخرج آمن للعنفوان الثوري في المملكة العربية السعودية، وتصديره لجهة خارجية. وكانت الوجهة المثالية التي وقع عليها الاختيار، هي الحرب الأهلية في أفغانستان. ومن مكر الصدف كانت محاولات ضياء الحق، جنرال الانقلاب على الرئيس الباكستاني المنتخب ذو الفقار علي بوتو حينذاك، قد نجحت في زعزعة الاستقرار في الجمهورية الديمقراطية الأفغانية ضد نظام نجيب الله الشيوعي، حليف الاتحاد السوفياتي. نجيب الله الذي أدخل إصلاحات على مستويات عدة في بلاده، كتبني العلمانية، والإصلاح الزراعي، وحقوق المرأة، ومحاربة الأمية وغير ذلك. بعد كل هذه الأحداث، وجد النظام السعودي الفرصة مهيأة لإفراغ مملكته من العناصر التي كانت تتوق للجهاد، لاستنزاف طاقاتها الجهادية في أفغانستان وإبعادهم عن المملكة الوهابية. هذا الجهاد الذي مولت السعودية ودول الخليج ثلاثة أرباع تكاليفه. أما أمريكا فقد أنفقت 3.3 مليار دولار على المجاهدين كتسليح وتدريب في إطار دحر التمدد الشيوعي. أُفرغت المملكة العربية السعودية من العناصر التي كانت ستهدد النظام السعودي، لكن أفغانستان دمرت ولازالت تعاني من حرب أهلية وتخلف مريع. الشق الأيديولوجي الذي بلوره النظام السعودي لإبعاد خطر ثورة إسلامية على غرار ثورة الخميني الشيعية عن مملكته الوهابية، تمثل في شيطنة العدو، والعدو هو الثورة الإسلامية وزعيمها الإمام آية الله الخميني ومذهبه الشيعي. شيطنة العدو في علم النفس الاجتماعي تعني نزع صفات الإنسانية عمن يُعتبر عدوا بهدف تنحية كل المبررات الأخلاقية التي تمنع ممارسة العنف ضده. فالآخر صار تجسيدا للشر، وهل يوجد عاقل يمانع أن يدمر الشر؟ أغرق آل سعود العالم بالدعاة والأئمة والكتب ووسائل الإعلام، التي تكفر الشيعة وتعتبرهم فرقة تهدد الإسلام. وأصبح الشيعة يصورون كعملاء يتآمرون مع الصهاينة من أجل تدمير السنة والسيطرة عليهم. بل هم أخطر من الصهاينة لأنهم عدو داخلي يتستر ويستعمل التقية لإخفاء نواياه الشريرة، لذا يجب القضاء عليهم قبل التفرغ للعدو الخارجي البادي للعيان: الصهاينة. فتمت شيطنة المذهب الشيعي وزعيم الثورة الإسلامية الإيرانية. وأصبح الشيعي رمزا للضلال والكفر وتجسيدا للشر. فتم نزع الوهج الثوري التحرري الذي كان يحيط بالثورة الإسلامية. وصارت مؤامرة صفوية رافضية تهدف لتصفية السنة. وصار الشيعي هو الطابور الخامس المتحالف مع النظام الصفوي لقتل السنة. الثقافة السائدة في المنطقة العربية، والتي خطط لها آل سعود وأنفقوا من أجل نشرها الملايير، هي التقسيم بين الأخيار والأشرار. الخيّر هو كل من ينتمي لمذهبي وطائفتي، والشرير هو الآخر المختلف من حيث المذهب والطائفة. في هذا الجو المشحون بالتجييش الطائفي وشيطنة كل فرقة للأخرى، لا يمكن القضاء على داعش، ولا على أي فرقة أخرى طائفية. داعش تقدم نفسها كفرقة الأخيار التي تقاوم الأشرار الذين هم بالأساس الشيعة وكل من يرونه مارقا وخارجا عن الإسلام، و كل الأقليات، وكل من يختلف معهم في الرؤى. فالحرب هي حرب بين الخير المطلق والشر المطلق. مادامت بعض العقول تؤمن بأن الأخيارهم طائفتي ومذهبي. والأشرار هم الطائفة الأخرى والمذهب الآخر، فستبقى داعش – ومشتقاتها – سيدة الميدان. وستستمر في استقطاب الأنصار من جهات الدنيا الأربع. وستواصل فئات عريضة من المجتمعات العربية والإسلامية مساندة مشروعها الإجرامي في دحر الأشرار، أي المختلف مذهبيا وعقائديا. فكيف يمكن إقناع الناس بإجرامية مشروع داعش في حين أن الأيديولوجية الوهابية هي من جندت جيوش الدعاة والمنابر الإعلامية لنشر فكر فحواه أن الآخر المختلف، أي الشيعي، هو شرير بطبعه، ولا هدف له إلا تدمير السنة! الحل يبدأ بتنظيف العقول من الفكر الطائفي، ونشر قيم الإنسانية والعدالة واحترام التعددية المذهبية. غير ذلك لن يكون مستقبل المنطقة العربية إلا أرخبيلات الطائفية وبانتستونات الاثنيه. وسيكون المستقبل داعشيا بامتياز، أو بمعنى آخر، الفوضى والقتل والتدمير، وعشرات الملايين من الجياع الحفاة العراة، بلا أرض تأويهم أو وطن يحميهم.