(1/2): ملاحظات سوسيولوجية تزخر الدراسات السوسيولوجية بتراكم علمي في تفسير طبيعة اشتغال التنظيمات والمؤسسات العمومية وغير العمومية. لعل أهمها، نجد اهتمامها بالمؤسسات الطبية والصحية بكيفية متفاوتة بين المجتمعات. إذ يمكن أن نميز داخل هذه الدراسات والمقاربات العلمية بين براديغمين أساسين؛ يمثل الأول كل الفاعلين الذين يؤسسون تصورهم "لإصلاح مؤسسة ما أو تنظيم اجتماعي" بالاعتماد على وصفات مُعِدة مسبقاً أو تعتمد على كل ما هو وصفي أو معياري، أو مادي بداخله (موارد بشرية، موارد مادية للعمل….)، وهي كلها وصفات recettes ، أعدتها التايلورية وغيرها وأبانت عن محدوديتها، لتفتح المجال أمام مقاربات جديدة، تركز على المكون البشري وحاجياته، وثمتلاته لواقعه الاجتماعي داخل العمل ولعلاقته الاجتماعية مع زملائه ورؤسائه ومع طالبي الخدمات، في كل إصلاح أو بناء سياسة إصلاحية سواء بمنطق السياسي أو بمنطق المسئول عن الشركة أو المقاولة أو التنظيم الاجتماعي بشكل عام. لا تنفلت المؤسسات الصحية بالمجتمع المغربي من هذا التجاذب بين زوايا الرؤى خاصة من جانب كل من المسئولين عن صياغة سياساتها أو الذين هم على رأس إدارتها المباشرة. نقصد هنا بالتحديد الوزارة الوصية ومدراء المستشفيات. من هذا المنطلق، يسعى هذا المقال إلى تسليط بعض الضوء وتقديم بعض الملاحظات – بالمعنى السوسيولوجي للكلمة- حول ما أثير في الآونة الأخيرة من صور وفيديوهات، تصف بمنطق الصورة الفوتوغرافية وضعية الفعل الطبي بالمجتمع المغربي، ك"فعل عمومي"، من المفروض أن تقوم به الدولة، للحفاظ على صحة وسلامة المواطنين بالمعنى السياسي للمفهوم، تم تدبير مرضهم وتقديم العلاجات الأساسية لهم، وبدونه تضمحل أدوارها ويتهدد وجودها لا محالة. لقد عبر مجموعة من الأطباء، على وجه التحديد عن حقيقة مجال ممارستهم المهنية وعن جزء من طبيعة الذهنية التي تسود لدى غالبيتهم، سواء في إطار ثمتلهم للمؤسسات الصحية و لنمط تسييرها من جهة، ولشكل وطبيعة السياسة الصحية التي تنهجها الدولة المغربية، خاصة من قبل وزارة الصحة كوصي رسمي على هذا القطاع. لقد ارتفعت نوعا ما حدة هذه الاحتجاجات داخل القطاع الصحي منذ نهاية 2006 واستقرت لتعاود نفس الأسلوب الاحتجاجي بداية 2010. لقد انخرط العاملون والأطر الصحية في نفس السياق الاجتماعي والسياسي الذي رافقته ما عرف ب "الربيع العربي". ولعل ما يزكي هذا التوجه، إلى حد ما، هو أن غالبية العاملين في القطاع الصحي، خاصة في صفوف الأطباء والممرضون، ينتمون إلى فئة الشباب بالمعنى البيولوجي للكلمة، ويمكن المجازفة بالقول، أنهم ينتمون سوسيولوجيا إلى نفس الفئة الاجتماعية "الشباب"؛ من حيث طبيعة القيم والنظرة إلى الواقع الاجتماعي ككل، وعدم قبول نمطاً معينا من الذهنية التي تكونت في ظل سياق مختلف عن السياق الاجتماعي والسياسي الحالي. لكن، ارتبطت الاحتجاجات الأخيرة عبر إنشاء صفحة خاصة على موقع التواصل الاجتماعي الفايسبوك من قبل مجموعة من الأطباء، متخذين لها عنوان "فضائح قطاع الصحة بالمغرب"، وذلك بعدما أدلى السيد وزير الصحة بتصريح، " يحمل وضعية قطاع الصحة وتعثر الخدمات بمؤسساته، إلى الغياب المتكرر وغير المبرر في نظره للأطباء عن أماكن عملهم". وهو ما أثار حفيظة الأطباء بدعوى مضمرة أن زميلهم الطبيب/الوزير "تنكر لانتمائه الاجتماعي لجماعة الأطباء التي هي بمثابة « confrérie ». لقد أثارت مختلف ردود الفعل من قبل الجانبين " الأطباء والوزير"، انتباهنا لإعادة التفكير في نفس السؤال الذي حاولنا أن نجيب عنه في إطار أطروحتنا للدكتوراه في علم الاجتماع، هو كيف يتدخل المكون الاجتماعي في تقويض المؤسسساتي والتنظيمي/ الطبي؟ وما هي الايجابات الممكنة لفهم واقع الممارسة الطبية بالمغرب؟لكننا لن نجيب على هذا السؤال من جديد في هذا المقال، وإنما نقدم الخلاصة التي مفادها، أن اشتغال المؤسسة الصحية بالمجتمع المغربي، يسير وفق نفس المنطق الذي تشتغل به باقي مؤسساته العمومية. والاكثر من ذلك، عندما نلج هذه المؤسسات، الصحية وغير الصحية، نصطدم بنفس الواقع الاجتماعي، تقريبا، الذي يسود بالمجتمع ككل، من حيث أنماط التفكير والعلاقات الاجتماعية. لقد ارتأينا أن نطرح هذه الخلاصة، لكي نؤطر شيئاً ما مقاربتنا لما ورد في الصفحة الفايسبوكية للأطباء، إن النظر إلى محتواها والبحث عن دلالاتها من حيث هي تعبيرات اجتماعية، تكشف للباحث عن طبيعة الحقيقة الاجتماعية التي تسود بالقطاع الصحي. واغفالها، يقصي كل فهم موضوعي للظاهرة. لا ينكر كل عاقل أن المؤسسات الصحية، فقيرة من حيث وسائل وموارد العمل، المادية والبشرية، فعدد الاطباء لا يغطي جل مناطق المغرب، وعمل تقريبا 50% منهم بالقطاع الخاص، وتمركز غالبتهم العاملين منهم بالقطاع العام بمحور الدارالبيضاء، الرباطالقنيطرة حسب أخر تقرير لوزارة الصحة لسنة 2011 حول الديمغرافية الطبية( بالفرنسية)، وضعف ميزانية وزارة الصحة لارتباطها بالناتج الداخلي الخام الذي يرتبط بالمستوى الاقتصادي للدولة ككل، ونواقص أخرى، لا يتسع فضاء هذا المقال لتفكيكها والبحث في تداعياتها على مستوى الممارسة الطبية بالمجتمع، تعتبر في نظرنا محددات جوهرية، لا يمكن تجاهل أهميتها ووقعها على دور الطبيب والممرض والتقني وانخراطهم في تنفيذ مهامهم في بعدها الطهراني والاكثر من ذلك، على صحة المريض . غير أن ربط تدهور قطاع الصحة بالمجتمع المغربي بعامل وحيد، يقصي لا محالة النظرة الموضوعية للظاهرة –بالمعنى التجريبي للمفهوم- وتقديم تشخيص لها تم فهمها ثانية؛ فتقديم أجوبة مباشرة على ما تعرفه المؤسسات الصحية من سلوكات وممارسات اجتماعية، لا يمكن فهمها بمنطق السياسي أو المسير le Manager، الذين يسيرون بسرعة غير سرعة الباحث عن منطق اشتغال الأشياء الاجتماعية، فغياب الأطباء مثلا، هل يمكن تفسيره كرد فعل بالمعنى السلوكي لطبيعة ظروف العمل؟ أو بعزلة المناطق التي يقصدونها؟ أو لظروفهم الاجتماعية التي ترتبط باشتغالهم في مناطق بعيدة عن أسرهم وأولادهم؟ أم بغياب مؤسسات خاصة، ليكلينيكles cliniques ، تتحول إلى فسحة إلى كل الراغبين عن الزيادة في الرزق كما يعبر الحس المشترك عن ذلك؟. نعرف جيداً، أن المسئولين عن إعداد "سياسة القطاع الصحي بالمجتمع المغربي، تراودهم نفس الاسئلة، وإن كانت بصيغ مختلفة. لكن هناك ملاحظات أساسية في نظرنا نود أن نقدهما في هذا الاطار، ليس للمسئولين، وإنما لفهم بعض من جوانب الإشكال المطروح: - تكمن خصوصية النسق الصحي بالمجتمع المغربي في كونه نسق موروث استعماري، لم يطور نفس بنفس السرعة التي تركته عليها السلطات الاستعمارية؛ وما مختلف التصويبات التي طرأت عليه، لم تمس إلى حد ما جوهر مشكل الممارسة الطبية بالمجتمع المغربي؛ بنياته الصحية الخاصة، في ارتفاع سريع، مقابل تهميش غير مبرر للعمومية به. - إن تدبير الصحة وقضايا المرضى وحاجياتهم وحاجيات العاملين والأطر الطبية بالمستشفيات، تتجاوز المنطق الذي يحكم علاقة رب المعمل بالعاملين، إلى علاقة تتحكم فيها متغيرات عدة، بحيث تتحول نفس العوامل المحفزة للعمل الطبي، إلى نفس العوامل التي تحقق الرضى عنه تقريباً، فالعلاقة مع العمل الطبي، لا تحددها القوانين أو المساطر...، بل إنها علاقة مبنية اجتماعية، لفهمها لا بد من الوقوف عند المعنى الذي يعطيه الطبيب أو الممرض لعمله ولمؤسسته؛ - إن إقصاء كل معرفة بتمثل العاملين والأطر الطبية لظروف عملهم وحاجياتهم، تقصي كما قلنا كل فعالية للإصلاح، وتحول هذه الأطر إلى موقع سلطة وقوة، حيث يحول الفاعل الطبي مختلف الاكراهات المطروحة أمامه، لبناء استراتجيات وسلوكات داخل عمله، لأنه بكل بساطة فاعل استراتيجي بلغة ميشال كروزيي، لا يمكن ضبط سلوكه مهما كانت القوانين والضوابط المهنية، فكلما ارتفع حجم النقص من الموارد وتدني ظروف العمل، إلا ارتفع سلوكات التغيب واللامبالاة، والرشوة، وارتفاع حالات الأخطاء الطبية والعنف تجاه الأطباء والممرضين، وضعف الحافزية أو غيابها بالمرة أحيانا. - لسبب بسيط، أن العاملين بالمستشفيات، يحولون هذه الاكراهات إلى استراتجيات تبريرية تم يفتحون مساحات شاسعة أمامهم، تنفلت مراقبتها وضبطها من قبل المسئولين، بحيث يصبح معيار الممارسة الطبية، يبنى من قبل الطبيب، الممرض، الحارس، المساعد الطبي... وليس من قبل المؤسسة؛ فغياب الدواء عن المستشفى، يؤهل الإطار الطبي، كي يبرر خرقه لكل المعايير الرسمية لممارسته مثلا... فالنذرة، تجعل الكل متدخل، والتراتب المهني غير واضح. إن لم نقل الطبي كذلك.. (يتبع) -باحث في السوسيولوجية الطبية [email protected]