السيد الموسوي..شروط المناظرة الصحيحة إذا سلمنا بأن ما قدمه السيد الموسوي ، قمين بأن يجسد معالم مدرسة متكاملة في فن المناظرة وسياسة الخلاف ، فإننا نستطيع من خلال هذا التراكم الكبير من الإنتاج الغزير في مختلف المباحث والأبواب ، أن نتحدث عن الشروط الضرورية لقيام تقاليد صحيحة في المناظرة وسياسة الخلاف ، والتي سنجملها في الآتي: الشرط الأول: كفاءة عالية: ليس المعنى المراد من الكفاءة العلمية هاهنا مطلق العلم ، بل المراد تحصيل العلم الضروري المخصوص بالخلاف . وهو الاستئناس بالمدرستين معا ، وامتلاك الحد الضروري من علم الكلام وأصول الفقه المقارن. حيث أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس. ومثل هذا الشرط تحقق بشكل لا فت للنظر عند السيد الموسوي ، حيث لم يكتف في المقام بالضروري من العلم بالتراث المخالف ، بل زاد عليه مهارة ، فكان استيعابه له استيعابا تخصصيا لا هواية. وليس أدل على ذلك مما فاضت به أعماله التي مثلت معبرا لهذه الحقائق التي كان يستطلعها استطلاعا، ويقتنصها اقتناصا من غائر المتون ومنسي المصنفات. إن إطلالة سريعة على بيبليوغرافيا السيد الموسوي تكشف عن أنه أعد للمناظرة عدة كافية ، مدركا بذلك بأن السفر في تفاصيل الخلاف ، سفر طويل وأن العقبة في سياسة التقريب كأداء. لقد ألف السيد الموسوي كتبا كثيرة منها ما رأى النور ومنها ما صار في عداد المفقود ، حيث لا ننسى أن بيت السيد الموسوي كان قد تعرض للحرق من قبل قوات المحتل الفرنسي وحرقت له أعمال كثيرة. لكن ما أحصي من مخطوطاته يدل كفاية على أن استئناسه بمصنفات المخالف الكبرى ، كان على نحو التخصص لا مجرد الاستئناس الخفيف. فقد كان له تعليقات على كل من صحيح البخاري وصحيح مسلم. ولقد زاد أغا بزرك الطهراني من هذه المصنفات المنسوبة للسيد شرف الدين الموسوي ، كتاب: "تحفة العلماء في من أخرج عنه البخاري ومسلم من الضعفاء"..ومن هنا ندرك ما كان قد أورده سواء في مراجعاته أو في الفصول المهمة ، من أسماء من أخرج لهم أهل الصحاح السنية من عدول الرواة الشيعة ، ما يبطل فرية أن الشيعة يكذبون في الحديث. كما كتب السيد رسالة تحت عنوان: "ثبت الأثبات في سلسلة الرواة"، تحدث فيها عن شيوخه في الرواية من الإمامية والزيدية وأهل السنة. وفيه يذكر أن الشيخ سليم البشري المالكي الذي أجرى معه المناظرة الشهيرة التي ضمها كتاب المراجعات ، كان قد أجازه في عام 1329ه، إجازة شاملة لجميع الطرق والأسانيد لكتب أهل السنة قديما وحديثا المنقول منها والمتأخر. وممن أجازوه من أهل السنة ، الفقيه بدر الدين الدمشقي والشيخ محمد بن عبد الله الخاني النقشبندي الشافعي والشيخ توفيق الأيوبي الأنصاري الدمشقي. وأريد أن أؤكد على من أجازه من أعلام المغرب ، ومنهم على ما نعرف أربعة ، هم الشيخ محمد عبد الحي بن عبد الكريم الكتاني الفاسي الإدريسي ، والإخوة الغماريين الثلاثة : أبو الفيض أحمد بن محمد الصديق الغماري الحسني الإدريسي و أبو المجد عبد الله بن محمد الصديق الغماري وأبو اليسر عبد العزيز بن محمد الصديق الغماري. الشرط الثاني: آلية ناجعة لا يكفي إحراز الكفاءة العالية، مهما بلغ وسع التحصيل ودرجة الاستئناس، إذا لم تنضم إلى ذلك آلية ناجعة، تحسن استثمار كافة المعطيات ، استثمارا سمحا حسنا ، يحقق المراد وتنتج عنه ثمرة. ولعل السيد الموسوي قد أدرك بذكاء ما كان يعتور أكثر أشكال المناظرة ، نتيجة الخلل الذي تعانيه آليات التحقيق والتواصل ، ما يؤدي إلى نتائج تعمق الإشكال وتمنح المكابرة والانزواء مسوغات إضافية للتردي في الشطط . تقوم الآلية الناجعة في أي مناظرة ناجحة مسؤولة على خلفية التكامل بين ضربين من التسامح ، أي التسامح في النظر والتسامح في العمل. وربما أمكننا في كل المناسبات التقريبية والوحدوية التقدم باتجاه شكل جديد من التسامح في العمل ، يجعل كل طرف يحتفظ بآرائه ، وفي الوقت نفسه يبادل الطرف الآخر بحسن السلوك ودماثة الخلق. وهذا لعمري ، درجة تعتبر في المقام ،لأنها أفضل حال من القطيعة والفرقة والانزواء، لكنها تضل خطوة صغير غير مكتملة، لأنها تأخذ فقط بأسباب التعارف في شقه العملي الأخلاقي القائم على المعروف ، لكنها تحتفظ بتصلب خفي بمواقفها وخلفياتها ، ولا تأخذ بأسباب التعارف في شقه النظري العلمي القائم على المعرفة. فإذا لم يعضد النظر العمل ، والمعروف المعرفة ، يكون التسامح ناقصا وثمراته جميلة المنظر ، لكنها مرة كالعلقم وإن بدا شكلها جميل كالأترجة. ومقتضى التسامح في النظر ، هو ما أسميه بالاقتصاد في الخلاف. فلو أننا راجعنا ما بين أيدينا من نماذج خلافية ، لوقفنا على فائض قيمة زائف ليس له من وجود حقيقي سوى ما كان من جود التجديف وكرم البهتان وسخاء المغالطة، وسوء الفهم الناتجان عن عدم التسامح في النظر ، وإرادة التبشيع والتقبيح الذي بلغ حد التخريف والهجر الطائفيين. وليس أمام المختلفين ، لتحقيق مبدأ الاقتصاد في الخلاف إلا الأخذ بمبدأ التعارف في شقه العلمي ، أي أن يتحقق شرط السماع بين المختلفين، ووضع حد بقوة الإجماع للزائف الملفق ، حتى لا يعود إلى الواجهة ، ولتنقية المناخ من كل ما من شأنه تهويل الخلاف ورسم مسافة فلكية بين المختلفين.وهذا ما حدا بالسيد الموسوي أن يقوم باستعراض عقائد الإمامية بالدليل ، حتى يدرك الطرف الآخر بؤس ما حيك وبؤس ما يحمله الآخر من معلومات عن الإمامية، حيث لم يكن الهدف التغليب كما قلنا ، بل التعريف، كمقدمة للمعروف. ولتحقيق هذا الغرض عبر آلية المناظرة المسؤولة أو التحقيق الجاد ، استند السيد الموسوي على آلية ناجعة تقوم على تأمين خط ذهاب وإياب بين المدرستين. فلا معرفة إلا عبر هذا الخط ، ولا معروف إلا بتحقق القدر الضروري من المعرفة. الشرط الثالث: مقصد نبيل قلنا أن الغاية من كل ما قدمه السيد الموسوي في الخلاف لم يكن مهجوسا بالتغليب كما بدا للكثير ، بقدر ما سعى إلى التعريف. ولم يكن التعريف هو الغاية القصوى بل كان غاية قريبة ، هي بدورها محطة في سلسلة العلل ، لغاية أكبر ومقصد نبيل ، أن يستقر جنان الأمة وتتقارب أطرافها وتتوحد على المساحة الكبيرة من المشترك الذي به كانت أمة واحدة. ويبرز ذلك بشكل واضح من خلال" الفصول المهمة في تأليف الأمة" حيث نلاحظ طرقا للخلاف ، وهجوما على الزيف بدل الفرق منه ، وكشف عن المغالطات التي تقعد بالأمة عن فريضة التواصل والتقارب . ولقد أعاد الحديث نفسه الذي سبق وعالجه في كتبه الأخرى كالنص والاجتهاد أو المراجعات أو الرسائل الأخرى كبحثه حول المسائل الفقهية أو التقية وغيرها، ما يؤكد أن الغاية التي كانت تتحكم بهذا العرض الملحمي للعقائد والأحكام الإمامية ، هي هذا المقصد النبيل والغاية الكبرى. إننا نجد في هذا المقصد ، غاية مركبة تجمع بين مثالية النبل وواقعية المقصد. لم يكن السيد شرف الدين، مثاليا في التماس هذه الغاية والحث عليها من موقع الحالة الوجدانية المثالية التي نجدها لدى كل غيور على وحدة الأمة دون أن يوفق إلى إيجاد السبل العملية لها ، بل لقد كان واقعيا ، وهو ما يفسر درجة الصدمة التي أحدثتها كتاباته لدى كل من كان ولا يزال ، يزعجه أن يتعرف المسلمون على حقيقة الخلاف ، خارج مناخ التجديف والانزواء الطائفي. لقد أبرزت سماحته حقيقة أخرى ، وهي أن سبب النزعة الطائفية ليست هي أن تبرز حقيقة معتقدك ، بل النزعة الطائفية هي حينما نستمر في التجهيل ونجعل كل طرف يحتفظ بقدر من المعطيات المزيفة التي لا يستسيغها معروف ولا معرفة ، أي لا يستسيغها فعل التعارف الذي إن كان هو سنة الله في خلقه التي دعا إليها القرآن الكريم ، فإنها بين أطراف الأمة الواحدة أوجب بموجب الأولوية القطعية. إن صدمة الواقعية التي انتهجها السيد شرف الدين ، هي صدمة طبيب لم يعد يجد في الجسد المترهل ما يساعد على العلاج إلا بآخره ، وهو الكي. ولكنها صدمة مجبورة بنبل الغاية التي حكمت كل مبادرات ونشاط السيد شرف الدين ، وحدة الأمة وتقارب مدارسها وألفة أبنائها. هل كان السيد شرف الدين يمارس التقية؟ لو أن المدعي اطلع على ما قاله السيد شرف الدين في التقية لأدرك أن لهذا المبدأ أصولا مقررة ، وشروطا محددة، وأنه لا يؤدي إلى ذلك المعنى القدحي إلا عند من صمم على إحكام جدار الانزواء وقطع دابر التعارف ، ونبذ واجب التحقيق. و ما أكثر ما اتهم أتباع مدرسة آل البيت ع بالتقية والكذب وما إليها من تهم . فما هي التقية وهل قدر الشيعة أن يتعبوا أنفسهم بإعلان حسن النوايا حتى قيام الساعة، وهل مع استمرار هذا المنظور الخرافي يمكن أن يستتب أمر الوحدة وبناء الثقة ، أو هل سيكون أمر الشيعة مريبا ، وليس لهم سوى أن يقولوا متى قالوا أو فعلوا على أساس، صدق أو لا تصدق!؟ التقية كما يعرفها الشيعة حكم إرشادي يلائم الطبيعة البشرية ، حتى أنها في اتقائها لا تحتاج إلى أحكام.. وهي في أكثر الأحيان حكمة عقلائية ، لكنها كما يعرفها خصومهم جبن وخور وخداع ومراوغة وكذب. فكيف يقال ذلك وقد قال إمامهم يوما: لو تظاهرت علي العرب ما وليت هاربا! وما ذا سيفعل الشيعة بكل هذه التعاليم الحاثة على نبذ الكذب وتعظيم خطره و مكارم الأخلاق التي اكتضت بها مصنفاتهم ونهض عليها نظامهم التربوي؟! لقد ارتبط مفهوم التقية بالعقائد الشيعية ، حتى بات في نظر خصومهم واحدا من مميزات الشخصية الشيعية لا تنفك عنها بأي حال من الأحوال . وذلك بعد أن تعدوا بالمفهوم إلى مطلق السلوك الشيعي الفردي والجماعي على السواء. فلم يكن غريبا أن يتحدث أحد المحللين عن موقف الشيعة بالعراق بأنهم يمارسون التقية مع الأمريكان. ولقد بالغ خصوم الشيعة في هذه النعوت بل وأصبحوا يحملون عنها فهما خرافيا لا يقل سذاجة عن خرافة الشيعة أصحاب أذناب البقر التي طالما تغذى عليها العقل التكفيري ردحا من الزمان غير بعيد. والواقع أن مفهوم التقية بعد أن كان مفهوما ذا أهمية قصوى ودلالة عالية في العقائد الإسلامية ، سرعان ما تحول إلى معنى قدحي ، دفع الشيعة بموجبه الثمن غاليا ، حيث ظن غالبية الناس من ضحايا التجهيل ، بأن الشيعة غير صادقين في ما يظهر من كلامهم. ولا يخفى أن المنظور الذي يحمله خصوم الشيعة عن الشيعة بخصوص مفهوم التقية ، هو بخلاف الطبيعة البشرية وبخلاف الواقع التاريخي الذي عاشوه ولا يزال دربه ممتدا أمامهم وبخلاف منظومتهم المعرفية. فأما من جهة الطبيعة ، فإن بشريتهم مانعتهم من أن يكون لهم باطن دون ظاهر كسائر خلق الله أجمعين بمن فيهم إبليس اللعين. فإذا كان مستساغا لدى من رأى فيهم يوما أنهم ليسوا بشرا ، بل لهم أذناب بقر ، فحتما سيصدق بكل ذلك إلا أن يقال أن لهم باطن فقط ، حيث كل ما للحيوان ، ظاهر لا محالة. فأن يكون سلوك الشيعة محكوم بهذا الستار الحديدي من التقية في الصغيرة والكبيرة ، دليل على طبيعة العقل الذي يتحلى به خصومهم ، وهزال التفكير الذي لا يزال يشكل القاعدة المنطقية لمثل هذه النعوت. وأما من جهة التاريخ ، فإن الشيعة كانوا ولا زالوا يتواصلون ويتفاعلون ويكتبون ويحاضرون ويجاهدون ويبنون..ومثل ذلك لا يستقيم بالباطنية المطلقة ، والتقية الشاملة لفعلهم. وكيف يقال أنها كذلك ، في حين أن السر لو ذاع في المجتمع وفشا بين الناس عز أن تجد له حاجبا . فمادام للشيعة مجتمعا وما دام مجتمعهم محكوما بسنة الاجتماع البشري من نزعات وخصومات وعواطف وانفعالات ومعاملات وذنوب ، فحتما لن يكون لهم رأي باطن، بل ولكان انتهى التواصل بينهم منذ زمن بعيد.لجهة أن قوام التواصل هو ثبوت إرادة المتكلم وجريان الفهم على قانون التلقي ، الذي يقوم على حجية الظواهر وقرينة الحكمة كما يقول الأصوليون.. وأما من جهة منظومتهم المعرفية ، فلك أن تنظر في عقائدهم ، حيث ظن الكثيرون أن التقية من العقائد التي تتقوم بها أصولهم ، في حين التقية هي سلوك طبيعي وموقف عقلاني وعقلائي أمضاه الشارع بنص الآية وجملة الروايات التي كان أول مواردها حادثة الصحابي الجليل عمار كما لا يخفى.ولك أن تتأمل مورد الآية ، حيث رفع الحرج عن عمار بن ياسر لم يسلب قيمة الصدح بالحق الذي قضى في سبيله أبواه. فهم صدحوا وهو اتقى ، وكلاهما له حكم خاص ، فتأمل! وهي تمثل ما سماه غيرهم تورية وما إليها من عبارات تؤكد على المطلب ولا تنفيه وإن كانت تخالف الاصطلاح الذي اقره القرآن ليتحول من معناه اللغوي المعروف ، إلى حقيقة شرعية بموجب هذا المورد. مع أن أصل التسمية هو ظاهر الآية : "إلا أن تتقوا منهم تقاة، ويحذركم الله نفسه" . ولعمري هي المرة الأولى التي أرى الشيعة يعيرون بمبدأ سماه القرآن ولم يسموه إلا تمسكا به. ومن جهة أخرى ، ما كان للشيعة أن يكون لهم هذا التراث الكبير من الفروع لو أن التقية قامت عندهم على خلفية هذا المنظور الخرافي المستحيل تحققه في عالم النوع. فلا شك في أن الفروع تتحصل بظاهر الكلام ، وأنهم أدركوا في عملية الاستنباط أن كلام العقلاء وذلك هو مفاد قرينة الحكمة تام وظاهر ومفيد. وما استثني عند التعارض بسبب التقية إنما هي واحدة من طرائق فك التعارض بين الروايات عند انسداد باقي الطرق المقدمة في المقام. ولو كانت التقية مساوقة للكذب، لكان الامامية أولى بنبذها لما علمت أن مذهبهم في التخلق على مذهب الأبطال والفرسان من آل محمد ص . ولو كان السيد شرف الدين حاشاه على ما تقول عنه بعض المجدفين كاذبا ، لما أجازه من أعلامهم من عرف بالإنصاف والتقى. فلقد كان صريحا واضحا في عرض آرائه ، شجاعا عارفا بأن لا طريق للتحقيق إلا بجهد العالم وصراحة المناظر وتخلقه ؛ فالتقية في المقام خارجة تخصصا ، ولقد دفع السيد الكريم ثمن صراحته غاليا. ذلك لأن إرضاء الشيعي لخصمه كانت ولا زالت غاية لا تدرك. آفاق الرؤية الموسوية أو آفاق تجديد فن المناظرة؟ على الرغم من أن المحاور الأزهري للسيد الشرف الدين ، كان هو الشيخ سليم البشري ، صديقه وزميله في دار التقريب وموجزه ضمن من أجازوه ، إلا أن البعض لم يستحسن هذا الواقع ، فحاول جهده الالتفاف عليه ، وتكذيب واقع قائم مشهود. ومع ذلك كان أحرى بنا أن نقول ، إن أخلاقيات المناظرة وروح الوصال وعمق النظر الذي حكم مناظرة العلمين المذكورين، هو انتصارا للحقيقة والمنهج الضروري اتباعه في كل أشكال المناظرة المسؤولة. وهي على كل حال ، إذا نحن تخلصنا من خلفية التغليب التي تشكل الهاجس الوحيد في المناظرة المذاهبية سندرك ، بأن المراجعات كان قد قدم نموذجا ناجحا ، ونمطا في الحوار لا يرقى إليه في سماء الخلق الرفيع جناح. ولعمري كيف طابت نفوس بمثل " منهاج السنة" الذي جاء ردا عنيفا قاسيا على كتاب "منهاج الكرامة" لابن مطهر الحلي ، ورفعوه مقاما عليا رغم حجم السباب والشتم وتحريف الحقائق والتجديف ، ولم يروا في المراجعات ، سوى مكرا شيعيا وما إليها من أوصاف نمطية معدة سلفا وجاهزة للتنزيل ولو بالتكرار الممل. رغم ما اشتمل عليه من تحقيق نظري وآداب وتخلق في أداء المناظرة. لكن علينا أن نقول، بأن لهذا التراث النظري للسيد شرف الدين ، مادة وروحا. وروحه المتأجج يلقي على عاتق الأجيال مسؤولية التجديد المستمر في فن المناظرة المسؤولة وانتقاء الآلية الناجعة والاجتهاد في تحقيق تكامل المقصد النبيل والغاية الواقعية. لقد كان سماحته بالغ الذكاء لما استحضر عددا من الرواة الشيعة المعتبرين في التراث السني ، ليدفع بذلك الفرية النمطية التي تختزل التشيع في التقية ، التي يحملونها على معنى المراوغة والتخفي والكذب. لقد نظر سماحته إلى الخلاف ، وأدرك أن ثمة أسبابا وخلفيات ، كما أن لمروجيه أهدافا ودوافع مختلفة. وسوف نستعرض ذلك حتى نستوعب هذه الأهداف ، ونؤكد بعد ذلك على ضرورة استكمال ما لم يكتمل منها ، لأنها رسمت معالم الحل لمسألة الوحدة والتقريب بين المسلمين. من يختفي وراء العصبية والفرقة؟ في الفصل العاشر من الفصول المهمة، أوضح سماحته السبب في أن يعلن براءة الشيعة من أكثر مما نسبه الكذابون إليهم. وأبرز الغاية من ذلك ، وكما سبق وأوضحنا ، بعيدا عن هاجس التغليب ، بل بدافع لم الشعث واستئصال منابع العصبية. يقول قدس سره:" والغرض من ذلك استئصال شأفة التنافر واقتلاع بذرة التدابر وإزالة كل عثرة في طريق الاجتماع ودك كل عقبة في سبيل الوئام ، وقبل الشروع في المقصود نقدم جملة لا تتم بدونها الفائدة، وحاصلها: أن في أهل السنة من رمى الإمامية بدواهي وفوارق قد علم اليوم بفضل المطابع وبركة انتشار الكتب وتقلص العصبيات وبزوغ الحقائق أنهم في غاية البعد عنها وتمام التقدس منها "[3]. وقبل أن نقف على الأصناف التي تقف وراء ذلك ، يستحسن الوقوف هنيهة عند ما تفيض به عبارات سماحته، في معرض شرحه للأهداف الثاوية وراء مبادرته تلك. يلاحظ أن السيد اعتبر أن أخذ الأكاذيب مأخذ الحقائق ، وتبني الأراجيف كما لو كانت وقائع ، هو ما يشكل عثرة في طريق الائتلاف. وإذن أصبح واضحا أن العمل على اجتثاث هذه الأراجيف ، هو بمنزلة مقدمة الواجب للوحدة والتقارب. تأكيدا على مشروعية المبادرة لفضح ما كان من قبيل ما تمت الإشارة إليه. ثم لا حظ قول سماحته"أن في أهل السنة" ، حيث إذا كان من مغالطات المجدف أن يتحدث عن الشيعة بالجملة ، فإن حاكم الموضوعية والنزاهة يجعل السيد يفصل ما استطاع حتى لا يظلم من هم عن هذه الفتن من أبناء السنة ، كابن اللبون، لا يخوض فيها خوضا ويتألم كألمنا لهذا التصدع الذي خلد بالأمة إلى الأرض ، وأربك خطاها. ثم لا بد من الوقوف عند العبارة الأخيرة ، لما يتحدث السيد عن ثلاث حقائق جديدة من شأنها أن تفضح التزييف وتبطل التجديف، وهي: فضل المطبعة وانتشار الكتاب بزوغ الحقائق تقلص العصبيات إن للمطبعة دورا كبيرا في تاريخ البشرية جميعا. وقد استطاعت المطبعة أن تحدث انقلابات كبرى في أوربا ، وأحدثت قطيعة ، بسبب انتشار الأفكار و حجم انتقال المعرفة. ومثله حدث في المنطقة العربية حيث إن دخول المطبعة إلى مصر إبان الاحتلال وأيضا إلى بلاد الشام ، ساهم في نقلة ثقافية كبرى ، عرفت حينها بالنهضة العربية الحديثة.وقد كان للمطبعة دورا بارزا على صعيد انتقال المعلومات والمعارف ، لا سيما ما يتصل بتاريخ وعقائد الامامية بعد ان كانت مخطوطات نائمة في رفوف الآحاد.فإذا كانت المطبعة وانتشار الكتاب قد فك الحصار ، وقضم من جدار العزلة ، فكيف يا ترى، يكون الأمر اليوم لو أن السيد شرف الدين شاهد كل هذا الانقلاب في وسائل المعرفة وفي سرعة انتقالها ، في عصر العولمة والثورة المعلوماتية؟! كذلك يعزو السيد شرف الدين التقدم في هذا المجال إلى بروز الحقائق ، حيث لا ينحصر فقط في انتشار الكتاب وظهور المطبعة ، بل أيضا يتعدى إلى حجم الأبحاث المستجدة والاهتمام الذي أبداه الكثير من المنصفين لإحقاق الحق والبحث في التراث الآخر ، من عرب ومستشرقين. وأما الثالثة فراجعة إلى التقدم الاجتماعي والحضاري وارتفاع الذوق الحديث الذي أدى إلى انكماش في ثقافة التعصب ، وجعل الثقافة الحديثة تستقبحه أكثر من أي وقت مضى. وقد كان من نماذج ما بلغنا من خبر الإحراق لكتب الشيعة ومصنفاتها ما يشيب له الولدان. والكثير منها اندثر ولم يعد له من وجود سوى آثار العناوين التي خلدها مصنفوا البيبليوغرافيا . ولم يكن كتاب الذريعة في تصانيف الشيعة إلا مثالا ، أو بالأحرى جوابا عن فرية عدم وجود آثار شيعة نهضت بها الحضارة الإسلامية. فلقد أردف حدث انهيار الدولة الفاطمية عملية إحراق واسعة للمكتبة الشيعية كما رمي بعضها الآخر في النيل ، واستعمل العبيد جلودها في صناعة النعال كما جاء في تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان. كما أحرق طغرلبك السلجوقي بيت الحكمة التي كانت للشيعة وأسسها بن بابويه[4]. وحدث مثل ذلك قبله وبعده ، بل حتى في العصر الحديث حدث نظيره ، وقد كان السيد شرف الدين ممن تعرض بيته للحرق ، فضاع بذلك تراث غزير من جملة ما ألفه من مصنفات. فكل هذه عوامل كانت سببا في فضح أكاذيب من اتهم الامامية بتلك الأكاذيب ، ومع ذلك هناك من آثر التمسك بها إلى آخر رمق في نوع من المكابرة قبيح ، وأحيانا إلى درجة الوقاحة. ولهذا استعرض السيد الموسوي هذه الأصناف التي تمسكت بهذه الأراجيف ، إلى طبقات وطوائف هي: قسم تمثله طائفة من العلماء المتزلفين للبلاط الأموي والعباسي ، حركتهم دوافع الانتماء السياسي وطلب الحظوة لدى السلطان الذي كان حينئذ خصيما لأهل البيت وشيعتهم. قسم تمثله طائفة من العلماء قاموا بذلك خوفا من أن يميل الناس إلى التشيع ، فهم على درايتهم بنزاهتهم من كل تلك التقولات والأراجيف . قسم اختلطت عنده الأمور ولم يفرق بين المنسوب لبعض الدعوات التي تشترك مع الشيعة الامامية بعنوان الشيعة ، نظير الكيسانية والناووسية والفطحية والواقفية، فلم يتثبتوا . قسم يمثله جماعة ممن اعتمدوا على ما ذكر أسلافهم من هذه التقولات والأباطيل فساروا على ملتهم في إرسال الأباطيل دون تثبت أيضا. ولعمري إن التقسيم أعلاه ، لا يزال يطل علينا من أعلى مستوياته، حيث أن دوافع السياسة والخواف من انقلاب الناس إلى التشيع واختلاط الأمور والتسامح في تبني الأراجيف ، أمر لا تخجل منه النخب فما بالك بالعوام. فأنت تجد باحثا من شيوخ الفكر العربي مثل الدكتور محمد عابد الجابري ، كان قد صب على الشيعة ما كان أرسله إرسال المسلمات ، منقولا حرفيا من كتب الملل والنحل ، معترفا بأنه لم يفعل سوى الاعتماد على المصادر المعتبرة عنده ، أي كتب السنة. فالباحث الذي يدعي أنه بصدد نقد العقل العربي وتفكيكه ، لم يملك أن يحقق في أبسط الحقائق المزيفة، فتبنى الأسطورة السبئية على علاتها واستعاد كل التهم الرخيصة في حق الشيعة مخلطا بين عقائد هذا الفصيل وذاك. وقد تقبل منه ذلك ردحا من الزمان من قبل المتلقي الذي طالما التبس عليه الأمر ولم يعلم من أمر الخلاف أيسره ، قبل أن يصبح مشروعه محط سخرية أهل التحقيق ، وبعد أن تبين أنه لم يكن سوى مقلدا لكل هذه المعطيات تقليدا لا يرفعه إلى مصاف المنصفين والمفكرين المبدعين. وقس على ذلك كل من كرس الافتراء ولم يلتفت إلى ما يهذب به رأيه أو يصحح به منظوره التقليدي. فكان ما سمي بنقد العقل العربي ، أكبر تجلي لأزمة هذا العقل الذي أعاد كتابة التاريخ الإسلامي على النغمة نفسها من التجديف وعلى الوتيرة ذاتها من البهتان. وقد أثبتت طريقة السيد شرف الدين الموسوي ، على أن نهج المناظرة المسؤولة ، وانسياح الحقائق سوف يحاصر هذه الدوافع ويفضح هذه الطوائف ، حيث أصبح من المتعذر على أحد أن يمنع أحدا عن معانقة الحقيقة ومباشرتها بنفسه والتعاطي معها في خلوته . في دواعي التنافر في الفصل الثاني عشر من فصوله ، حاول السيد شرف الدين الوقوف بصراحة وشجاعة على مصدر المنفر من كل فرقة تجاه الأخرى . محاولا وضع اليد على نزيف التباعد والتنافر ، وتضميد الجرح بما تراءى له دواءا ناجعا . وفي هذا السياق قسم الحديث إلى مقصدين، أحدهما يستعرض باختزال ، ما ينفر الشيعة من السنة والمقصد الثاني ، ما ينفر السنة من الشيعة. ففي المقصد الأول ، تحدث سماحته منفرين، أولهما ما كان من تكفير وتحقير من قبل بعض من أهل السنة للشيعة، وقد عالجه سماحته ووقف على أكثر التهم الحاكة ضدهم.وثانيهما ، عزوف أهل السنة عن الأخذ من أهل البيت في الأصول والفروع. فلم يرو صحاحهم عن أئمة أهل البيت ، ولم يخرج البخاري الذي روى عن الخوارج ، أحاديث عن الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والزكي والعسكري، ولا عن الحسن أو زيد أو يحيى و..و.. أما في المقصد الثاني ، فلقد تعرض سماحته إلى أهمها ، معتبرا إياها المسألة الوحيدة والمعضلة الشديدة، ألا وهي مسألة الصحابة. وقد أرجع السيد ذلك إلى أن بعض الفرق التي تحمل عنوان الشيعة غلت غلوا كبيرا في النيل من الصحابة جملة وتفصيلا. ولقد تحدث عن أهمية الصحابة ونسب التشيع إلى بعضهم ، ودعا إلى إبراز أسمائهم كما وعد بذلك نفسه. يقول قدس سره:" وذلك أن بعض الغلاة من الفرق التي يطلق عليها لفظ الشيعة ، كالكاملية يتحاملون على الصحابة رضي الله عنهم وينالون من جميع السلف ، فيظن الجاهل أن ذلك رأي مطلق الشيعة ، ويتوهم أنه مذهب الجميع ، فيرمي الصالح بالطالح ، ويأخذ البريء بذنب المسيء(...) وكيف يجوز عليهم ما يقوله الجاهلون أو يمكن في حقهم ما يتوهمه الغافلون، بعد اقتدائهم في التشيع بكبراء الصحابة كما يعلمه الخبير ( بالاستيعاب والإصابة وأسد الغابة)،(...)وسأفرد لهم إن شاء الله كتابا يوضح للناس تشيعهم ويحتوي على تفاصيل شؤونهم ، ولعل بعض أهل النشاط من حملة العلم وسدنة الحقيقة يسبقني إلى تأليف ذلك الكتاب فيكون لي الشرف"[5]. يظهر مما سبق ، أن آفاق المشروع التقريبي للسيد شرف الدين لم ينجز. وبأنه كان مع كل ما قدم يرسم الخطوط العريضة لعمل دائم ومستمر لتفكيك دواعي التنافر والبعاد.وقد اختصرت دعوته المزدوجة الأخيرة ذلك الطموح ، بحيث يحث أهل السنة على الاهتمام بآثار أهل البيت ، وإظهار ما في ذمتهم من الاحترام والتقدير لهم ، في صورة مشاريع عملية كما بدأ يظهر مع آحادهم هذه الأيام ، وهو أمر حسن. كذلك على عاتق الشيعة الإمامية أن يهتموا بالصحابة ويمنحوهم التقدير الذي في ذمتهم ، ويحصوا آثارهم وسيرتهم في مصنفات تدفع عنهم فرية أنهم يسبون الصحابة. فليتحدثوا عن فضائل هؤلاء القوم الذين قدموا أرواحهم في سبيل نصرة الدين ، وكانوا حواريين للرسول الأعظم ص ، وتقديم الاحترام لهم بالجملة والتغليب ، وإن كان من بينهم من لم يرض صنيعه الإمامية، وذلك اقتداء بأسلوب القرآن الكريم ، الذي ترضى عنهم بالجملة ، في بيعة الشجرة مع أن من بين من حضر بيعة الرضوان مع الصحابة الأجلاء، ابن سلول، رأس النفاق في المدينة. وذلك في سياق ما أسميناه بالاقتصاد في الخلاف. فأن يكون الخلاف في آحادهم أهون من أن يكون فيهم جميعا. ثم إن السيد شرف الدين حمل الأجيال اللاحقة مسؤولية الاهتمام بالصحابة . غير أن ذلك لا يكفي ، حيث أن قوام عقيدة أهل السنة في الصحابة هي بالتفصيل لا بالجملة. وأيضا بالتراتب لا أفقيا. فلا يكفي احترام البعض منهم إذا ما احتفظت بموقف من البعض الآخر، من منطلق أنهم في العدل سواء، كما لا يفيد أن تحترم الغفير منهم إذا لم تقدم رأيك في من احتلوا في تراثهم منزلة كبارهم. والحق يقال ، إن السيد تحدث عن مبررات الموقف الإيجابي بالجملة ، وقدم ما يكفي لتفهم موقف الشيعة من الأولين دون ان يمنع هذا من الحديث عن إيجابيات الجميع ، ونهج الواقعية في النظر إلى مسألة الصحابة رضي الله عنهم. إن مسألة الصحابة معضلة شديدة ، وعلى المختلفين أن يستمروا في معالجتها ، لأنها وحدها قد تخفف من شدة الفرقة والبعاد، مادام أن المدار هو الدليل والحجة، ليس إلا. فهل العقل المسلم مستعد لقبول الحقيقة كما هي وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي على أساس التحقيق لا التغليط؟ََ! وأخيرا: في نهاية المطاف، جدير أن يعكف كل فريق من أهل الخبرة باستقراء واستلهام المعالم المميزة لآثار السيد الموسوي وأفكاره ونشاطه وتأطيرها ضمن قواعد ومعالم مدرسة متكاملة تدرس في معاهد متخصصة تعنى بهذه الأهداف. كما تعنى باستكمال المشاريع التي وعد بها قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى ، وفي طليعتها أن يصنف الشيعة كتابا حول الصحابة ، يبرزون فيه الكم الهائل من أسماء المعتبرين منهم الأجلاء ، وأيضا الإتيان على سيرتهم كما هي، حتى لا يقال بعد اليوم إن الشيعة تكفر الصحابة أو أنها لا تبقي إلا على ثلاث منهم أو أكثر من ذلك بقليل. وكأن الخصم يضرب أخماس في أسداس ويجعل نقد الشيعة لبعضهم بمثابة تكفير لهم جميعا. وتلك من التهم التي لم تعد تفيد الخصم في لجاجه الطائفي. ذلك لأننا متى حرّرنا فكرة الخلاف من أسر العصبية وجعلنا الحكم فيها لله وللرسول ، حفّ وزر الفرقة وانفكت عرى الخصام وخرجت الأمة من الهشاشة والحساسية المفرطة وأدواء الكراهية والأحقاد ونما وعيها ورشد عقلها ، إذ (ما كان لله ينمو). **** [1] عبد الحسين شرف الدين الموسوي ، النص و الإجتهاد ، ص 14 ، منشورات الأعلمي ، ط2 / 1966، بيروت. [2] انظر السيد شرف الدين الموسوي: براعة الاحتجاج الرفيع وأخلاق التواصل الصريح ، ادريس هاني مجلة المنهاج ص72 العدد 38 السنة العاشرة 2005م/1426ه . [3] السيد شرف الدين الموسوي، الفصول المهمة في تأليف الأمة، ص163 ، دار الزهراء، بيروت لبنان ، ط 8 1995م [4] انظر مقدمة كتاب الشافي في الإمامة، للسيد الشريف المرتضى،ص 9 10 ج1 مؤسسة الصادق 1986/طهران [5] المصدر السابق ، ص189