دروس من تونس الحديثة استطاع التونسيون منذ النصف الأول من القرن التاسع أن يقوموا بتجديد صلتهم بالتاريخ الفعال، وبالتخلي عن ميثولوجيات ثقافة الانحطاط. فتونس، كما هو معروف، قد عرفت منذ الثلث الثاني من القرن التاسع عشر تحديث التعليم، كما أنها كانت من البادرين إلى إلغاء الرق، وإصدار أول قانون يسوي بين التونسيين واليهود والأوروبيين المقيمين في الأيالة التونسية، قصد ممارسة التجارة وكل الأعمال والمهن بنفس الواجبات والحقوق، وهو القانون المعروف في أدبيات التونسيين ب"عهد الأمان". وشهدت تونس أول مجلس بلدي غير مستورد، وأول دستور ومجلس نيابي في هذه المنطقة من العالم. كما عرفت الصحافة الحرة، منذ 1860، ولا تزال جريدة "الرائد التونسي" جريدة رسمية لتونس إلى اليوم. وشهدت كذلك نظام الجمعيات المدنية قبل أن يغشاها ليل الاستعمار سنة 1881. لكن التونسيين استمروا في مقاومة التخلف الحضاري بالمقدار نفسه الذي مارسوا به مقاومتهم للاستعمار، من أجل الحفاظ على هويتهم واسترداد سيادتهم. ففي الوقت الذي عملوا على إنشاء مدارس للعلم الحديث بتلاقح لغوي فعال، وإصلاح مناهج التعليم الموروث في الزيتونة، (المرادف لتعليم القرويين والأزهر)، كانوا أول من أسس الأحزاب السياسية الوطنية والنقابات العمالية في منطقة المغرب الكبير، وكانت الصحافة التونسية سباقة إلى المناداة باحترام حقوق الإنسان وحق تقرير مصير الشعوب قبل إعلان الرئيس الأمريكي ويلسون سنة 1919 بزمن طويل، وكانت صحافة متعددة المشارب الثقافية والتوجهات الإيديولوجية. وأعطت الدعوات إلى تعليم المرأة وتحريرها ثمارها قبل الاستقلال في كل مجالات الحياة (جمعيات ثقافية. تعليم، تمريض وتطبيب، وعاملات ومهن حرة كالمحاماة الخ). ولذلك لم يكن منة من بورقيبة أن تشهد تونس أول مدونة للأحوال الشخصية في العالم الإسلامي تمنع تعدد الزوجات بعد أقل من أربعة أشهر من الاستقلال عن فرنسا سنة 1956. بورقيبة ومآل الحال وعلى الرغم من ذلك لم يكتب لانطلاقة تونس الأولى في هذا العصر أن تمتد آثارها إلى مختلف مجالات الحياة فى دولة الاستقلال، لأن الحبيب بورقيبة، الذي منح لنفسه صفة "المجاهد الأكبر"، و"أبو الأمة التونسية"، ألغى جل مكتسبات الشعب التونسي التي لم تكن توافق طبعه وأبوته المعلنة للأمة، أو لم تكن تجد هوى في نزوعه الشرقي نحو الاستبداد، فقد ألغى حريات التعبير والإعلام، والاجتماع، والمبادرة الخلاقة، ومنع التعدد السياسي والحزبي وثقافة الاختلاف. وتبنى منهج الاغتيالات السياسية قصد التخلص من معارضيه، كما تم منع جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني غير التابعة لحزبه. فأدخل المجتمع التونسي فيما يسميه البعض بعهد "الاستحمار" بعد عهد الاستعمار. وقد علل بورقيبة ما أقدم عليه بالخوف من عودة ما كان يسميه ب"نزوات النوميديين"، أي الفوضى وغياب الامتثال للقانون، ما سيؤدي في نظره إلى إفشال مشروعه لخلق الأمة التونسية، والدولة الأمة. ولذا اعتبر في خطاب له بتاريخ18 يناير 1963 أن الحرية أو والديمقراطية في تونس ستؤدي إلى "زرع بذور الحقد والكراهية وتشتيت شمل الأمة". هل استمرت البورقيبية في دولة ابن علي؟ واصل بورقيبة السيطرة على مكنونات الدولة، وإحكام القبضة الحديدية بكيفية أسوأ من الاستعمار، فلا صوت كان يعلو فوق صوت المجاهد الأكبر، ولم تفلح المظاهرات والاحتجاجات الشعبية، التي قمعت بشدة. وكان من بين أدوات القمع الشهيرة مدير أمنه، قبل أن يصبح وزيره للداخلية، الجنرال زين العابدين بن علي، الذي قاد الانقلاب ضده في نوفمبر 1987. لم يف ابن على بوعوده ككل الانقلابيين، بل مارس السلطة بعقلية استخباراتية وبوليسية مثل نظرائه في النظام العربي. وكادت تونس المشتقة من "الأنس" أن تتحول إلى "توحش" المشتقة من "الوحش". امتدت تلك المنهجية السياسية المتناقضة جملة وتفصيلا مع تطلعات وطموحات التونسيين إلى إلحاق زمنهم السياسي بزمنهم الفزيائي إلى يوم 14 يناير 2011 يوم استجاب الوعي الجمعي للشعب التونسي لنداء البطولة الكامنة في تاريخه الفعال، وفي إرادته المنجذبة نحو الغد الأفضل. والآن ها هم التونسيون يقدمون درسا جديدا يتمثل في تحريك الشارع العام ضد نظام الاستبداد بنجاح، وانتخاب مجلس تأسيسي لإعداد دستور دائم وقد حدث. اتفق فيه الفرقاء السياسيون على الفصل بين السلطات المكونة لمؤسسات الدولة. وقد تصبح تونس أول دولة إلى جانب إسرائيل في الضفة الجنوبية للمتوسط تتخلص من الجمع بين مفهوم الدولة والحكومة، كما هو ممارس في النظام العربي. ومن جانب آخر نص الدستور التونسي الجديد على مبدأ التداول على السلطة وآلياته السياسية بالاحتكام إلى اختيار الشعب عبر صناديق الاقتراع، وفقا للمعايير المتعارف عليها عالميا في ممارسة اللعبة الديمقراطية. ما مدى إمكانة نجاح وثبة التونسيين الثانية؟ مرت أربع سنوات من المخاض ومن محاولة استدراك ما ضاع في زمني الاستعمار والاستحمار، وانتصرت في النهاية لغة التوافق على لغة التوجس خيفة من الآخر، ومحاولات استئصاله بكل الوسائل. انتصرت، إذن، البرغماتية السياسية على ذهنية دولة الزعيم الأوحد والقمع البوليسي الموحد. فإلى أي مدى يستطيع الدرس التونسي الثاني، أو الوثبة الثانية، تجنب الوقوع فيما وقع فيه الدرس الأول؟ نطرح هذا السؤال بالنظر إلى ما أسفرت عليه الانتخابات البرلمانية والرئاسية وظهور تحالفات كان يبدو استحالة حدوثها اعتمادا على منطوق شعارات كانت تطلق وتعلن زمن دولة ابن علي. يمكن القول، شكليا، إن العملية الديمقراطية في تونس كانت سليمة، غير أن ما ستؤول إليه الأمور خلال العهدة الأولى لرئاسة السيد الباجي قايد السبسي هو الذي سيؤكد تطابق المضمون للشكل أو لا.. إذ هناك من لا يزال يسكنه هاجس مصير الدرس الأول في عهد الدولة الوطنية الأولى، زمن بورقيبة وابن علي، حين تحولت شعارات التحرر من الاستعمار وقيام دولة العدالة والكرامة إلى أساليب ووسائل للاستحمار. فهل يمكن تجنب احتمالات النكوص هذه المرة؟ كان المنطق الثوري يفترض أن ينتخب الشعب القوى التي كانت تنادي بالأمس بإسقاط نظام القمع والاستبداد. وهذه القوى تكمن أساسا في الحقوقيين والإسلاميين واليساريين, غير أن التشرذم الذي تعيشه هذه القوى والصراعات الأيديولوجية فيما بينها البين سمح بعودة حواشي النظام السابق، وكذا المستفيدين من امتيازاته ليتصدروا الانتخابات البرلمانية وينتصروا في الرئاسيات. وإذا تجاوزنا الأسباب التي يعلل بها كل طرف أسباب تأييده افلول النظام السابق، بدلا من أولئك الذين تجمعهم شعارات حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وكرامة الشعب التونسي في العيش الكريم، فإن كثيرا من أولئك المناصرين لعودة الحرس القديم، أو الفلول، لم تكن مواقفهم تلك غريبة، لأن جل اليساريين ومدعي حقوق الإنسان والحداثة العرب ناصروا ولا يزالون يؤيدون عمليا الأنظمة الاستبدادية العربية مغربا ومشرقا لأسباب تخصهم هم وحدهم، على الرغم من شعاراتهم التي قد يفهم منها العامة عكس مقاصدهم الخفية. مهما يكن من أمر فإن العلاقات المتشنجة والتشظي الذي يلازم التنظيمات الحقوقية واليسارية والحركات الإسلامية هي نتاج حتمي للفكر ألأيديولوجي؛ والأيديولوجيا مهنة البوليس كما قال محمود درويش. إضافة إلة موقف المتأدلج غالبا ما يكون مشابها لموقف بطل فيلم "الأفيون والعصا". إذ في اللحظة الفارقة، في أحداث الفيلم. ينحاز بطل الفيلم إلى الجهة التي ظل يعاديها طول حياته. فهل ما حدث في تونس في اللحظة السياسية الفارقة كذلك كان تعبيرا متجددا لما وصفه عقيل بن أبي طالب حين اعترف "بأن الصلاة وراء علي أسلم والأكل على مائدة معاوية أدسم"؟ صحيح أن وعود الرئيس قايد السبسي، ذي 88 سنة من عمره، القادم من سرايا النظام السابق بأنه سيكون رئيسا لكل التونسيين وأنه سيحترم التعدد السياسي قولا وفعلا، وأنه سيلتزم بتطبيق الدستور تطبيقا كاملا، وأنه سيعتبر المعارضين مجرد خصوم سياسيين وليسوا أعداء للدولة وللمصلحة القومية العليا، كما كان ينظر إليهم من قبل، بل أنهم كانوا يصنفون في قائمة الإرهابيين، وأنه سيعمل على دعم ثقافة التوافق وترسيخها بين كل مكونات المجتمع التونسي. وبغض النظر عن الماضي السياسي لهذا أو ذاك. كل هذا إن تم الوفاء به وتحقيقه على أرض الواقع سيجعل من تونس النموذج الاستثنائي للنظام السياسي العربي الحديث والراهن. لكن التونسيين لا تزال ذاكرتهم تستحضر ما وعد به ابن على في الميثاق الوطني سنة واحدة بعد انقلابه على رئيسه، وقد جاء فيه: "نحرص على إرساء تقاليد التنافس النزيه، تسليما بحق الاختلاف الجائز والمشروع (... والتفتح) على مشاغل الإنسانية وقضايا العصر والحداثة". قبل أن يؤكد أن النظام السياسي التونسي يقوم على الدستور الذي ينص " على أن السيادة للشعب يمارسها عبر الانتخاب الحر… ويضمن استقلال القضاء وحقوق الإنسان وحرياته الأساسية"، واعترف في الوقت نفسه ب"أن نظام الحزب الواحد وتهميش المؤسسات وشخصنة الحكم، والانفراد بالسلطة، كانت ممارسات مخالفة لدستور البلاد، وسببا في عديد الأزمات". لكن عكس ذلك هو الذي حدث على أرض الواقع حتى تمرد الشعب على ما زنازين نظام ابن علي المرعبة، فحطم بتضحيات شبابه أقبية الذل والهوان. إن هذا التوجس، الناجم عن تجربة واقعية، قد يجد له في وعود الباجي قايد السبسي ما يبرره، خاصة وعده باستعادة "هيبة الدولة"، هذه الهيبة التي كثيرا ما توظف لتبرير الخروج عن النص، وعدم الوفاء بالوعود الانتخابية، فتعود حليمة إلى عادتها القديمة. ثم هل يسمح لشجرة الحرية أن تنمو نموا عاديا وبسلام وسط غابة استبداد العسكر والطوائف والعشائر العربية؟ وهل يمكن لنسمات الديمقراطية العليلة أن تنتصر على رياح السموم والخماسين والقبلي والسيروكو؟ إننا ننتظر الجواب من الشعب التونسي. "وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم"