كم يبدون صغارا، أولئك المتحاملون على اللغة العربية، بل هم أقصر قامة من الأقزام، وأدنى من أن يسمع لهم ركز أو يحس لهم دبيب، صيحات في واد و سحابات صيف، سرعان ما يلحقها البوار، وتبقى العربية صامدة بتاريخها و بأهلها. العربية لغة راقية على حد تعبير المنافح أحمد الأخضر غزال رحمه الله ، راقية بجميع مكوناتها من معجمها و صواتتها و حتى دلالتها ،و لكل عاقل أن يتأمل هذا التراث الإنساني الزاخر المكتوب بالعربية. إن الدعوة للعامية مردودة و يائسة، و قد حاولها كثير من العالمين و المتعالمين، تذكرون الشاعر اللبناني "سعيد عقل" رحمه الله، صاحب القصيدة المغناة " زهرة المدائن"، فقد دعا سنة 1961 إلى العامية اللبنانية، واستبدالها بالعربية الفصحى . سعيد عقل هذا تطرف في وجهته و نادى بإلغاء حتى الحرف العربي، على غرار ما فعل في دار النشر" يارا" التي أسسها تحقيقا لهذا الغرض.فصدق فيه قول الأعشى: كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها فلم يضرها و أوهى قرنه الوعل سعيد عقل الشاعر الكبير رحمه الله ،( وقد وافقه في ذلك، الشاعر"يوسف الخال" والشاعر "أحمد سعيد" أدونيس قبل أن ينسحب هذا الأخير من جماعة المارقين هذه، في حين كان موقف "نازك الملائكة" مشرفا و رافضا لمقايضة الفصحى بأية لغة أخرى) لم يحصد سوى الهزيمة، و اندثرت داره (دار نشره) بعاميتها وخطها الفينيقي، و لولا العربية الفصحى لما عرفه أحد في أنحاء الوطن العربي ، ولما ردد أحد مع فيروز أن " الغضب الساطع آت وأنا كلي إيمان ......". قضية أخرى أراها جديرة بالاهتمام. و هي هذا الزواج القسري بين الإعلام و العاميات عموما، وليس المغربية فقط، فقد أرادوا أن يكون للعربية ضرائر ينافسنها البيت،(غير أنه زواج سفاح، باطلٌ عقدُه) اللبنانية و المغربية و العراقية و الخليجيات .... أما أم المضحكات فهي هذه المسلسلات الأجنبية المدبلجة بالعامية و التي عند سماعها تضطرب لها الأذن اضطرابا. ما كان يضيرهم لو استمرت الدبلجة بالعربية الفصحى ، أيام المد الملفت للدراما المكسيكية نهاية الثمانينيات؟ (بغض النظر عن مضمون هذه الدراما و مستواها النازل). كم أشعر بالأسى عندما ألمح بعض الدوريات "المتعامية" و قد وضعت عناوين على صفحاتها الأولى بدارجة هجينة ممجوجة ، شخصيا يراودني شعور غريب و أنا أقرأ عناوين من قبيل : "كيفاش المغاربة كيضحكو" .أو "البكارة زايد ناقص".... أشفق على تلميذ المرحلة الابتدائية، ( مرحلة الضبط و البدايات الأولى للتعلم اللغوي )، و هو يقرأ مثل هذه العناوين، أما مايراه مكتوبا على اللوحات الإشهارية الهابط مستواها ، وما يمطره به الإعلام السمعي و المرئي ، فتضاعف من حيرته و ارتباكه . في قاعات الدرس، كان بعض أساتذة اللغات الأجنبية ( حفظهم الله) يحظرون علينا أن نمزج بين هذه اللغات الأجنبية المقررة في المدرسة المغربية، و بين أية كلمة دارجة و لو واحدة، مخافة أن نأخذ عادة سيئة يصعب التخلص منها فيما بعد، و هي عادة التفكير بالعامية و من ثمة الترجمة إلى اللغة الأخرى فيما بعد، و هي عملية ذهنية ، تبطئ من تعلم أي لغة، و تحد من امتلاكها الامتلاك الصحيح، لهذا كان الأخذ بناصية أي لغة، يعني الاندماج بها، و تعلمها من داخل هذه اللغة نفسها، و بالتالي كان الانتقال من لغة إلى لغة أخرى، بمثابة الانتقال إلى عالم جديد كليا. إذا كان هذا شأن اللغات الأجنبية ؟ فلم نبخس العربية حقها ؟ ولم هذا النفور من العربية و من تعلمها، فترى بعض الآباء يبتهجون إن أفلحت فلذات كبدهم في الرطانة بلسان أعجمي،يفخرون مطمئنين، فالمستقبل كله لهذه الألسنة العجمى ، في حين يشمئزون من العربية و لا يلقون لها بالا، و كأن العربية قرينة التخلف و الجمود.. ألا يعلم هؤلاء أنهم مخدوعون واهمون، و أنهم ضحايا حسابات سياسية و حروب لغوية ، هم فيها كالآلات المنفذة العمياء ... إن امتلاك العربية ، يعني الإخلاص لها ، و تحريرها من الشوائب التي تشوش على تعلمها ، و في مقدمتها هذا الإنزال المتسارع وغير المسبوق للعامية . حاولت إحدى القنوات الوثائقية الرائدة ، في نسختها العربية ، أن تزاوج بين الفصيحة والمحكية، بعدما انطلقت تطعم برامجها بأشرطة مقروءة بالعامية المثيرة للاستغراب ،فلما تبين لها ،فإنها قد عادت إلى جادة الصواب ،تترجم بلغة عربية مبسطة صافية ، تفهم من الخليج إلى المحيط، والشيء نفسه يقال عن إحدى القنوات الموجهة للأطفال،والتي بقدر ما تنفع الأطفال بقدر ما تضرهم و تدس في حلوقهم، عاميات عرجاء. ألا يشكل هذا خطرا على أمننا اللغوي، ألا يعتبر ذلك ضياعا لمجهودات الوزارة و الأساتذة في تلقين العربية الفصحى؟ إذن أي ازدواجية لغوية هذه؟ و عن أي تلاسن لغوي يتحدثون؟ ( التلاسن يعني أيضا صراع الألسن). لقد تجاوز الأمر حد البيت و الشارع ، و إذا بالفصيحة تحارب في عقر دارها و مواقعها، و نحن ساكتون ، ننتظرو نتفرج. تخيلوا أدبا مكتوبا بالعامية ، ننافس به غيرنا للظفر بالجوائز العالمية، هل كان الأديب الكبير نجيب محفوظ سيكتب اسمنا الوحيد و اليتيم، على لائحة الناجحين في المسابقة العالمية المعروفة، بغير اللغة العربية ، تخيلوا محاميا يرافع بالدارجة، أو وزيرا أول يقدم تصريحه، أو أستاذا يلقى دروسه، بهذه اللغة المحكية التي نضطر لها اضطرارا ... لقد انهار برج بابل، و معه تبلبل البشر وانشطرت لغاتهم، و يكفينا ما نحن عليه في الوطن العربي من تفرقة، أما إذا انضافت هذة البلبلة اللغوية، فتلكم الهاوية . الفرنسية و البرتغالية و الاسبانية و الايطالية و اللغات الرومانية عموما، ماهي إلا لغات عامية، تفرعت عن اللغة اللاتينية الأم ،و لئن استطاع الأوروبيون أن يتوحدوا و يذرؤو ا بالتفرقة الوحدة، ويضعوا مكان الخلاف تعاضدا و تعارفا، فكيف سيؤول حالنا، لو تمخضت "زقورة" برجنا، عن المغربية و الجزائرية و العراقية والمصرية و غيرها كثير . لا أظن أن المآل آنئذ ، سيرضي أحدا منا ... لقد استبدل الأتراك الخط اللاتيني ، بالخط العربي فما حال لغتهم اليوم؟ ، هي أشبه بالفرس الأسطورية، التي لها رأس إنسان و جسد حيوان ، فالتركية ذلك البناء اللغوي المتميز بشرقيته وأصله الهندوأوروبي ،أصبح محمولا على جسد غربي ( الحرف اللاتيني )، فكانت التركية التي ظاهرها غربي الملامح، وباطنها روح تركية عميقة الجذور . قد يعترض معترض مقاطعا ، و ماذا عن الفارسية أو الأردية (لغة باكستان) أليس الأمر سيان ؟ فنقول : شتان بين تطور تاريخي متدرج ، مر عبر مئات السنين، وبين قرار سياسي فرضته أهواء السياسة و نزعاتها. العربية لغة حضارة و تقدم ، و هي المؤتمنة على كتابنا المعجز، هي صرح شامخ بني عبر التاريخ، يستحيل أن تنال منه أظافر اليائسين المقلمة. اللغة آلية لتحديد ، ليس وجودنا النفسي والاجتماعي فقط ، بل تحدد وجود المتكلم وانتمائه الجغرافي، أما الاستلاب اللغوي، سواء كان من الدخل أو من الخارج، فرمية في صميم لساننا، وشرخ في بؤرة شخصيتنا، وعرج في مشيتنا، لن يزيد الأمور إلا سوءا واستفحالا. ناقشنا في هذا الموضع ، الانزياح الخطير، و تبادل الأدوار، الذي يراد له، أن يتم بين الفصيح و العاميات ( الازدواج اللغوي DIGLOSSIA )، و هو وحده غرض هذا المقال وبؤرته، أما الخليط اللغوي الرسمي أي الثنائية اللغوية و اللغات المراد لها أن تكون وصيفة للغة العربية، سواء في المغرب أو في البلاد العربية فذاك موضوع آخر . [email protected]