ما أروع الشعور الذي ينتاب المرء عندما تنجح بلاده في الظفر بشرف تنظيم تظاهرة عالمية كبيرة، لها مكانتها الاعتبارية، ودورها الفعال في مجال نشاطها ودائرة نفوذها. ففيها مناسبة عظيمة للتواصل المباشر مع جميع أنحاء العالم حيث يفضي لا محالة، إلى معرفة ما جد من قضايا وأطاريح؛ أضحت تشكل محط الاهتمام والعناية بالنسبة لمختلف الناشطين الحقوقيين، بتعدد جنسياتهم وتباعد مرجعياتهم، علاوة على كونها مناسبة، والمناسبة شرط كما يقال، لطرح القضايا الراهنة على المستوى العالمي والمحلي أيضا، ليعرف الآخرون مدى وعينا بها وتدرج انخراطنا في مسالكها الشائكة ومتاهات دروبها الضيقة. فنقدم ما جد لدينا في المغرب من معضلات ومطبات حقوقية بغض النظر عن اختلاف وجهات نظرنا بل وصراعاتنا أيضا. فكلنا مغاربة وكلنا نصبو لتصوير مدى تقدم هذا الورش واستشراف المستقبل فيه، بعيدا عن تشويش المشوشين وتَزيُّد المنافحين المتملقين، فيتحقق المطلوب ونربح الرهان الحقوقي الذي تتزايد وطأته علينا في المحافل الدولية يوما بعد يوم. إن هذا هو الشعور الذي كان يدغدغ المشاركين المغاربة وغيرهم أيضا، وهم يتأهبون لشد الرحال صوب المدينة الحمراء قصد المشاركة في ورشات المنتدى العالمي لحقوق الإنسان. وبالفعل استبد هذا الشعور بالحاضرين في الافتتاح أثناء تلاوة وزير العدل للرسالة الملكية التي زفت بشرى مصادقة المغرب على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب، وكل ضروب المعاملة والعقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهنية، ثم أردفتها بأخرى تتعلق بتنصيب هيئة دستورية للمناصفة ومناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة. ولعل هذا الشعور النبيل والإحساس الوطني المرهف يجعلنا نتساءل: هل كان بالفعل تنظيم المنتدى العالمي لحقوق الإنسان بما له وما عليه، في مستوى الرسائل والإشارات التي بعث بها الملك إلى المشاركين في المنتدى، وهل يا تُرى حقق لنا هذا المنتدى العالمي، ما كان يصبو إليه بلدنا من مرام وأهداف وطنية وعالمية؟!، هل استطاع منتدانا المغربي بامتياز أن يشاكل ويماثل النجاح الرائع الذي تم تحقيقه في المنتدى الأول بالبرازيل؟!. هل حقق الإشعاع الإعلامي المنشود سواء من خلال القضايا والمحاور العالمية والقارية أو من خلال قضايانا الوطنية التي كان لزاما علينا طرح حقائقها دون تزويق ولا مساحيق، على مرأى ومسمع المشاركين الأفراد والجمعيات والمنظمات الحقوقية الأجنبية، ونحن الذين نتهم بحق وبدونه بانتهاك الحقوق وخرقها ؟! لا أحد يجادل أو يشك في رغبة القائمين على المنتدى في إنجاح هذه التظاهرة الغراء، وتجاوز الحسابات الضيقة في سبيل تحقيق الهدف المنشود على المستوى الدولي، حيث أصبحت تقاس العلاقات الدولية على هدي حقوق الإنسان، وعن طريق المنظمات الدولية الكبرى تَصدُر القرارات، بما يترتب عليها من خير وشر على مستوى إبرام الاتفاقيات وحفظ المصالح. غير أن حسن النية وصفاء الطوية لاتكفيان، لأن هذا المجال سُلَّمُه صعب، وحراسه جبابرة التاريخ لا يعصون له أمرا. لقد كان من آكد مهمات المنتدى العالمي بمراكش تسليط الضوء الكاشف من أجل تقديم صورة حقيقية لما قام به بلدنا من تقدم في هذا المجال، وإيصال هذه الصورة إلى كل بقاع المعمور، بشتى الطرق والوسائط، حتى نقدم أنفسنا كما فعلت البرازيل من قبلنا، بوصفنا دولة من الدول التي تحترم حقوق الإنسان، وذلك عن طريق تقوية مشاركة نسيجنا الحقوقي في المنتدى بكافة تلويناته وحساسياته، والنأي بأنفسنا عن صغائر الأمور من أجل كلمة سواء، نرأب بها الصدع ونشرك الجميع حتى لا تتفرق كلمتنا وتذهب ريحنا فنرجع بعد انقضاء المنتدى بخفي حنين لا نلوي على شيء. وفي سياق متصل، كان لزاما علينا الانفتاح أكثر على الفعاليات الحقوقية العالمية دون أن نغفل أو نتغاضى عما يُكِنُّه بعضها من عداء لمصالحنا الوطنية، ويحمله من قيم مخالفة لثوابتنا وما أجمعنا عليه سرا وعلانية. لذا فالتركز كثيرا على الأساتذة الجامعيين والباحثين في مجال حقوق الإنسان في الجامعات الأجنبية ليس كافيا، لأن تأثيرهم محدود ونحن في مجال حقوقي بالدرجة الأولى لا في مجال آكاديمي نقارع فيه النظريات العلمية والأطاريح الجامعية. هل نهجت مقاربتنا لمنتدى مراكش نهجا تشاركيا، يجمع كلمة النسيج الحقوقي المغربي اللهم من اختار التخلف عن ذلك برغبة وطواعية؟!، هل تأتى لنا أن نُمَكِّن الكل من أن يدلو بدلوه بين الدِّلاء، بغض النظر عن مرجعياته وحساسياته، ويشارك الجميع وفق رؤية استشرافية ناظمة في تدبير الموضوعات الشائكة التي من المفروض أن نطرحها بما يضمن مصالحنا الذاتية والوطنية كأفراد ومؤسسات. كما قد نتساءل أيضا، هل استطعنا أن نجعل منتدانا العالمي غنيا غنى المنتدى الأول في البرازيل سواء بالنسبة للأسماء الدولية الوازنة في عالم المجتمع المدني أو بالنسبة لعالم السياسة والثقافة والفن، ليس على المستوى العالمي فقط بل على المستوى الإفريقي والعربي؟. إن عدم تمكن المشاركين في المنتدى من معرفة أسماء الشخصيات الحاضرة وأسماء الجمعيات والمنظمات الأجنبية المشاركة، جعل البعض يحكم جازما بأن حضورها كان باهتا وعددها يقل بكثير عما تم التصريح به رسميا، اللهم إذا كان نشاطها خارج القرية المنظمة لهذا الغرض في قاعات الفنادق المغلقة وصالوناتها الفسيحة. أضف إلى ذلك أن التنظيمات المشاركة ما هي في الواقع -على حد ما لاحظه بعض المختصين- إلا منتديات قديمة أكل عليها الدهر وشرب، فانتهت صلاحيتها منذ زمان كالأوروميد والأوروميسكو. والشيء نفسه ينطبق على الشخصيات الحاضرة التي كانت شيئا مذكورا فيما مضى، أما اليوم فلا تأثير لديها وكلمتها ليست مسموعة في مجال حقوق الإنسان، وذلك بعدما فسحت المجال لأجيال أخرى، وقدمت استقالتها عن طواعية ومحض إرادة. ألم يكن خليقا بنا مقابل ذلك، أن نركز على الأسماء التي وعدنا بحضورها في إعلان المنتدى، وصوتها مسموع كما هو معلوم، في مجال حقوق الإنسان، وعلى رأسها الأمين العام للأمم المتحدة وبعض رؤساء أمريكا والاتحاد السوفياتي سابقا. أما السيد زباتيرو رئيس الحكومة الاسبانية سابقا، فكما يعرف ذلك القاصي والداني في اسبانيا لا تأثير لديه يُذكر، ولعل ذلك ما جعله لم يقدم أو ينشر أي تصريح رغم خطبته العصماء في الجلسة الافتتاحية والتي ألهبت حماس الحضور في تلك الليلة الباردة والممطرة. وفي السياق ذاته لماذا لم نستطع تعبئة الدول الافريقية للمشاركة في منتدى مراكش كما فعلت البرازيل مع دول أمريكا اللاتينية. لقد كان من المفروض بالنظر للدور الذي يلعبه المغرب في افريقيا والذي يطمح أن يلعبه في مستقبل الأيام على المستوى السياسي والاقتصادي والديني أن نستثمره على الوجه الأمثل وذلك انسجاما مع الخط الرسمي المتضمن في الرسالة الملكية وقبلها في خطاب جلالته في الأممالمتحدة. لقد كان لزاما علينا أن نعمل مع إخواننا الأفارقة كمجموعة واحدة متجانسة، وندعو بإلحاح الرؤساء والوزراء والشخصيات السياسية والحقوقية الافريقية لنحمل من خلالها مشعل الحقوق بكافة أشكالها على مستوى قارتنا السمراء، ونُسمِع صوتَنا وننقل شكواهم وشكوانا إسوة بدول أمريكا اللاتينية، لا أن نؤثث بهم الجلسات الرسمية البروتوكولية، بل لنشركهم في الورشات والعروض والمناقشات التي للأسف حضرها وزراؤنا ورؤساء مؤسساتنا الدستورية بقضهم وقضيضهم وبمختلف ألوانهم السياسية، وتتبعوا جلساتها بمسؤولية والتزام لحد قد يخيل للمتتبع أن هذا المنتدى جاءت إليه الدولة بكافة مرافقها لتعرض ما لديها عوض أن تترك المجال للجمعيات والمنظمات المعنية أساسا بقضية الحقوق، والتي إليها ترجع المنظمات الدولية في الشاذة والفاذة، ومن خلالها تصاغ التقارير وتمنح الدرجات. أما خلاف ذلك فلا يفهمه الحقوقيون الأمميون إلا على أساس أنه تهميش للمدافعين الحقيقيين عن حقوق الإنسان وتشكيك وتجريح في ذممهم وتعريضهم للتحرشات والمشاكل على حد تعبير ميشيل فورست في الجلسة الختامية للمنتدى. ومن جهة أخرى ألم يكن خليقا بنا، أن نطرح قضية وحدتنا الترابية ضمن أوراش المنتدى بوصفها قضية حقوقية، أليس من حقنا أن نثير قضية المحتجزين في تندوف والانتهاكات التي يتعرضون لها في مخيمات العار، وأين هي تلك الجمعيات والشخصيات الحقوقية التي سبق أن عبرت عن استيائها مما آلت إليه المخيمات. وما فائدة هذا المنتدى بالنسبة لبلدنا الذي أنفق من أجله بسخاء كبير، إذا لم نُسمع صوتنا فيما يخص الحكم الذاتي ونشرح قضيتنا ونقنع بها غيرنا من حقوقيي العالم حتى نبعثر أوراق خصوم وحدتنا الترابية. ألم يكن من الأنسب أن نعرض شريطا لما يعانيه إخواننا في مخيمات العار على غرار الأشرطة التي عرضت في قاعة كوليزي بكيليز ليطلع عليها المشاركون الأجانب ويقفوا على معاناة المحتجزين وعذاباتهم والانتهاكات التي يتعرضون لها في كل وقت وحين، والكيل بمكيالين فيما يخص بيانات الشجب والإدانة التي تُسَخَّر ضد بلدنا من طرف الأعداء والخصوم. وقد يقول قائل إن هذا الأمر يدخل فيما هو سياسي وليس حقوقيا، إلا أن الواقع خلاف ذلك، فمتى كانت قضية حقوق الإنسان في العالم بعيدة عن السياسة، أفلم تكن دائما ورقة تلعب بها القوى الكبرى لقضاء مآربها السياسية ومصالحها الاقتصادية، والذكي هو من يعرف كيف يلعب على الحبال ويجمع بين الحُسْنين لإحقاق حقه وحفظ مصالحه. صحيح أن الإعلام الوطني بكافة أنواعه عمل على تغطية أعمال المنتدى بخلاف الإعلام العالمي الذي لم يشر إلى ذلك إلا لماما، وهي نقطة ضعف لا بد من الإشارة إليها. والسبب في ذلك أن الشخصيات المدعوة لم تكلف نفسها عناء تقديم تصريحات في بلدها بهذا الخصوص، ولم تُدَبِّج مقالات صحفية تتحدث فيها عن منتدى مراكش وما حققه المغرب من تقدم في مجال الحقوق، لتثير الانتباه والفضول وتدعو لإعادة النظر في الأحكام والمواقف. ولست أدري هل أحجمت عن ذلك لمحدودية تأثيرها في هذا المجال، أو لغاية في نفسها نتيجة أمور قد ترسخت في أذهانها ولم ننجح في تغيير واستئصال صورتها. ومهما يكن من أمر فإن ذلك قد يقوم دليلا على ضعف علاقاتنا وقصورنا في التأثير على من نعدهم أصدقاءنا وحلفاءنا من رواد حقوق الإنسان في العالم، لأننا لم نستطع طوال هذه السنين أن نخلق شبكة حقوقية دولية نعتمد عليها وتفهمنا وتقدر ما نقوم به بموضوعية وحياد دون نفاق أو محاباة. والطريف أنه حتى القنوات الفرنكفونية التي تحدثت عن منتدى مراكش بعد انقضاء ثلاثة أيام ركزت على الجمعيات المقاطعة ولم تحفل بورشات المنتدى ومحاوره ومواضيعه التي تسيل لعاب أنصار الحريات ودعاة القيم الجديدة. وبهذا لم نستطع أن نجعل من الإعلام العالمي أداة لتحقيق الإشعاع المطلوب، في هذا النوع من المناسبات. لم نساعد منتدى مراكش ليسير في خط متواز مع التحديات المطروحة على بلادنا حالا ومآلا. كما لم يكن أيضا في مستوى تجربتنا التنظيمية والتي يقر بها الأصدقاء والخصوم، إلى حد أن علق أحد الظرفاء المشاركين مازحا بأن هذا المنتدى لو أشرفت على تنظيمه الدولة لكان حاله أحسن، سواء على مستوى استقبال الضيوف الأجانب أو على مستوى بطاقات السفر أو على مستوى حجوزات الفنادق. إن الخلل والتخبط فيما يخص جلسة الافتتاح كاد ينسف بالمنتدى برمته لمّا هددت بعض الوفود الأجنبية، ظانة أن المغرب له موقف منها جراء ما حصل لها من ضرر غير مقصود خارج عن إرادة المنظمين دون شك، حيث أوكلوا الأمر بحسن نية لوكالات لم تزن الأمور بموازينها الحقة، ولم تقدرها حق قدرها وأهميتها. كما أن الذي تتبع الأوراش قد يستاء كثيرا من جغرافيتها الفكرية وأولوياتها الحقوقية، حيث غياب الخيط الناظم وطغيان المحلي على الكوني والمدرسي على النقدي التحليلي، مما فسح المجال أمام الخلافات العقدية والقناعات الإيديولوجية العمياء التي أدت إلى سوء الأدب حينا ومصادرة الرأي المخالف أحيانا أخرى، رغم أننا لم نكن في حاجة إلى ذلك، إذ كلها مواضيع ذات طابع محلي نناقشها على طول السنة وكل منا فرح بما لديه، ولا فضل لأحد على أحد في نهاية المطاف. لقد كان حريا بنا أن نستحث الخطى نحو المستقبل بالتركيز على المواعيد المرسومة في أجندة حقوق الإنسان الكونية ك"حقوق الإنسان وخطة التنمية" و"الشراكة العالمية الجديدة" و"العدالة البيئية" و"الحقوق الاقتصادية" وغيرها ونقول كلمتنا فيها مجتمعين عوض الانصراف كليا إلى مواضيع ونقاشات أصبحت عقيمة واجترار مقولات ولوكها في كل وقت وحين، مطمئنين ومستمتعين بمعاركنا الدون كيشوطية التي لا تقدم ولا تأخر في هذا المجال. ممّا أصبح يفوت علينا الفرص ويلهينا عن مهمات الأمور. لقد صار المشهد الحقوقي عندنا يتوزع بين الدولة والمعارضة وتيار حقوق الإنسان الذي أضحى يتعامل بدوره كحزب يشق لنفسه طريقا أخرى في المعارضة تقف على طرفي نقيض مع ثوابتنا ومقوماتنا. إن عجلة هذا الزمن ماضية لا محالة، ولا مجال فيها للاستهتار والاستغباء، لأن بلدنا سيكون هو الخاسر الأكبر نتيجة هذا التعنت والإصرار وسوء التقدير. فعوض أن نحقق المفاجأة على مستوى العالم وننخرط كلية في الجيل الجديد من الحقوق من خلال إعطاء هذه الورشات مكانتها الاعتبارية، فضلنا حوار الطرشان مع بعضنا البعض، وسمحنا للبعض أن يهدد البعض الآخر بحرب الإبادة والاستئصال العرقي، ومن تَمَّ كان من المفروض على رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان وهو النبيه الأديب الأريب أن يعتمد اللغة العربية في خطابه الختامي بوصفها لغة رسمية من جهة وحتى يرد بذلك ردا جميلا على كل من دعا بطرد الناطقين بالعربية ونادى باستئصالهم وتهجيرهم من هذا البلد. لقد كان على رئيس المنتدى أن يتجنب استعمال لغة موليير، لان المقام لا يناسب ولا يحتمل أيضا، فلم يكن داع لاستخدامها بعدما أدار أهلها وأصدقاؤنا ظهرهم عنا، ولم يعترفوا بما حققناه من تقدم في مجال الحقوق، بل بخسوه ونقصوه ولم يقدروه حق قدره. وكل لبيب بالإشارة يفهم.