يعتبر الفساد الإداري و المالي أحد أبرز المواضيع التي استحوذت على النقاش العمومي، وأحد أهم الإشكالات التي طرحت على الساحة السياسية، كما شكلت محاربته في الآونة الأخيرة أحد المحاور الرئيسية للبرامج الحكومية. فلقد دعت حكومة التناوب في تصريحها الحكومي إلى تخليق الحياة العامة ومحاربة كل أشكال الانحراف واستغلال للسلطة، كما حملت الحكومة الحالية بقيادة حزب العدالة والتنمية شعار محاربة الفساد والاستبداد واتخذته مرجعية لخطاباتها الرسمية. لكن المفارقة الغريبة الجديرة بالإشارة هي أنه كلما كثر الحديث عن الفساد وعن محاربته إلا وارتفعت مؤشراته كما تبين ذلك استطلاعات الرأي التي تقوم بها منظمة الشفافية الدولية ترانسبارنسي، وكما تشير إلى ذلك مجموعة من الأحداث والفضائح التي ملأت صفحات الجرائد الوطنية وآخرها فضيحة الصندوق الوطني للإيداع والتدبير في ملف باديس . فهل يعني هذا أن الفساد أصبح مؤسسا ومكونا من مكونات تسيير الشأن العام ببلادنا وبالتالي يصعب التقليل منه؟ أو أن المقاربة التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة على السلطة خصوصا حكومة التناوب والحكومة الحالية لم تكن ناجعة وفعالة؟ في الواقع ليس من السهل تحديد الأسباب التي تكمن وراء تنامي هذه الظاهرة في المغرب، ويعزى هذا في نظرنا إلى عاملين مهمين: العامل الأول هو أن الفساد حالة أخلاقية وظاهرة مجتمعية تحاط بالكتمان والسرية، والعامل الثاني هو عدم وجود طريقة مضبوطة لقياس الفساد، فغالبا ما يتم اللجوء إلى الجرائد والمجلات وشبكة الأنترنيت، ودراسة حالات بعض الإدارات كالجمارك والشرطة والقضاء للحصول على المعلومات . لكن بصفة عامة يمكن إرجاع أسباب انتشار الفساد وتفشيه إلى وجود بيئة سياسية واقتصادية وثقافية فاسدة، فالفساد ينتشر عندما يكون حكم القانون غائبا، والمؤسسات ضعيفة وسياسات الدولة تؤدي إلى تصدعات اقتصادية وعامة الناس تبدي تسامحا حيال الفساد. 1- غياب ثقافة حكم القانون إن غياب ثقافة حكم القانون وجهل النخب السياسية بأهمية القانون كمعبر عن الإرادة الشعبية وحافظ للحقوق والواجبات هو في نظرنا أهم معوقات محاربة ظاهرة الرشوة. فمكافحة الفساد لا يمكن أن تعتمد فقط على يقظة الضمير والتربية والإرشاد أو على خطابات شعبوية ، بل إن ترسيخ حكم القانون وتطبيقه بفعالية هما أضمن الوسائل للقضاء عليه. وفي هذا الباب يجب التذكير بأن حكومة التناوب قامت إبان ولايتها بوضع ترسانة قانونية مهمة تستهدف مكافحة الفساد ، إلا أن ما يعاب عنها على المستوى العملي هو مردودها المتواضع جدا لاسيما في الملفات الكبرى التي فتحت آنذاك ونخص بالذكر ملف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ملف القرض الفلاحي ،ملف البنك الشعبي، ملف القرض السياحي والعقاري وغيرها من الملفات التي همت باقي المؤسسات العمومية وشبه العمومية والجماعات الترابية حيث أن غياب حكم القانون فيها ساهم في إفلات عدد كبير من المتورطين من العقاب ولاسيما الرؤوس الكبرى وذوو النفوذ. في نفس السياق عمل حزب العدالة والتنمية بعد وصوله إلى سدة الحكم وقيادته للتحالف الحكومي برئاسة عبدالاله بنكيران على حمل شعار محاربة الفساد والاستبداد واتخذه كأساس لبرنامجه وأولوية من أولويات الحكومة حيث خلق انتظارات لدى الرأي العام واستبشر المواطنون خيرا بهذا الخطاب . لكن على مستوى الأجرأة لم يترجم هذا الخطاب إلى خطوات عملية بل حاول رئيس الحكومة تكريس الأمر الواقع بمقولته الشهيرة " عفا الله عما سلف " وبتصريحاته المتكررة حول عجزه أمام هذه الظاهرة و عدم إمكانية القضاء على الفساد والمفسدين. إن عدم تطبيق القانون على جميع المتورطين وعدم مسائلة المسؤولين المشتبهين هو احد الأسباب الموضوعية في فشل السياسات الحكومة في مكافحة الفساد . فعلة الدولة المغربية لا تكمن في غياب القوانين بل في عدم تطبيقها بفعالية مما جعل احد الباحثين يشبه الجريدة الرسمية المغربية "بقبر من القوانين بدون تطبيق " ، وهذا خطير جدا لأن هذه العلة تنتشر في "الأنظمة الاستبدادية" وفي ما يعرف "بالدولة الفاشلة". لذلك يجب على الدولة العمل على تطبيق القانون على الجميع ، فالقانون بما يحتويه من قيم وأهداف يجب أن يكون الحاكم الفعلي في الدولة ورمز السيادة الشعبية حتى يمكن بالتالي الحديث عن دولة فعلية للحق والقانون. 2- ضعف المؤسسات المكلفة بمحاربة الفساد إذا كانت الدولة تعاني من الفساد فذلك بسبب ضعف المؤسسات المكلفة بردع السلوكات الفاسدة، فوجود قضاء مستقل و فعال يشكل أحد العناصر الأساسية في منظومة مكافحة الفساد و ملاحقة المفسدين. والحقيقة أن القضاء موجود في بلدنا واستقلاله مكرس على صعيد النصوص القانونية، لكن الممارسة تفيد عكس ذلك، حيث نستشف انتقائية في تحريك الدعاوي المتعلقة بالفساد. فخلال العقدين الأخيرين عرفت عدة جماعات محلية ومجموعة من المؤسسات العمومية والشبه العمومية تحقيقات حول سوء التدبير والاختلاس والرشوة ، وقفت عليها لجان نيابية لتقصي الحقائق والمفتشية العامة للمالية والمجلس الأعلى للحسابات ، لكن أغلب الملفات التي حملتها تقارير هذه التحقيقات، بقيت حبرا على ورق ولم تعرف طريقها إلى محاكمة عادلة مستقلة ونزيهة. فاغلب القضايا في هذه الملفات خضعت للانتقائية وتحكمت فيها التعليمات والتوجيهات السياسية ولم تراعى فيها أحكام القانون، و ظل بذلك القضاء فيها بعيدا كل البعد عن القيام بالدور المنوط به على أكمل وجه ألا وهو ردع السلوكات الفاسدة بإصدار أحكامه بكل موضوعية وحرية واستقلالية في حق المتورطين . لهذا يجب تمتيع القضاء باستقلالية تامة وحقيقية، تضمن محاكمة سوية وعادلة لجميع المسؤولين المتورطين، لا يستثنى فيها احد بداعي انتسابه لجهة معينة أو انتمائه لتيار من التيارات . بالإضافة إلى هذا، يجب تمتيع باقي المؤسسات التي تشتغل في حقل مراقبة ومكافحة الفساد بسلطات قوية، و موارد مالية مهمة لتتمكن من الإحاطة بجميع أوجه الفساد وكشف المتورطين و تقديمهم للقضاء . 3- تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وتراجع القدرة الشرائية للطبقة الوسطى يلاحظ من خلال استطلاعات الرأي التي تقوم بها بعض جمعيات المجتمع المدني وعلى رأسها الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة، أن القطاعات الأكثر فسادا هي القطاعات التي يكون فيها تدخل الدولة مهما وفي مقدمتها وزارة الداخلية، والتجهيز، والمالية، والقضاء. فواقع احتكار الخدمات التي تقدمها هذه القطاعات تضع المواطن في موقع التبعية للإدارة وتجعله يميل إلى تخطي القواعد والمساطر عن طريق منح الرشوة للمسؤولين للحصول على رخص أو الاستفادة من صفقات وتحقيق أرباح وامتيازات خارج إطار القانون. في هذا الإطار قامت الدولة أواخر القرن الماضي في إطار سياسة استثمارية تتجاوب ومتطلبات العولمة ببعض الإصلاحات الاقتصادية ركزت خلالها حكومة التناوب آنذاك بشكل عام على تحرير بعض القطاعات التابعة للدولة و على دعم الشفافية في تدبير الشأن العام عبر إلغاء بعض الامتيازات وترشيد النفقات . لكن هذه الإصلاحات كانت جزئية و لم تترجم فيما بعد إلى إجراءات عملية حيث طغى عليها الجانب التقني والتحسيسي من قبيل نشر لوائح المستفيدين من رخص النقل و رخص استغلال المقالع وتم بالتالي التغاضي عن الاوراش الإصلاحية الكبرى كإلغاء العديد من الإعفاءات الضريبية وتوسيع الوعاء الضريبي و تقوية الشفافية والنزاهة في الإنفاق العام. وبموازاة مع تدخل الدولة في القطاع الاقتصادي يشكل تراجع القدرة الشرائية للطبقة الوسطى لاسيما موظفي الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية أحد العناصر الفاعلة في تنامي ظاهرة الفساد، فالزيادات المتكررة للحكومة في أسعار المواد الاستهلاكية أدى إلى تدهور القدرة الشرائية وانخفاض المستوى المعيشي لهؤلاء ، مما ساهم في إضعاف الروح المعنوية لديهم ودفعهم إلى تقبل الرشاوى وتبرير الفساد. 4- تساهل المجتمع حيال الفساد لعل أخطر ما في الفساد من مميزات أنه حاز على مشروعية شبه رسمية في المجتمع، حيث يتمتع بقدر مهم من القبول لدى الرأي العام الشعبي. فعامة الناس تبدي تسامحا كبيرا تجاه الفساد، وتجد له من الذرائع ما يبرر استمراره ويساعد على اتساع نطاق مفعوله في الحياة اليومية. فهو يمثل للعديد من المواطنين هدية أو مساعدة و يشكل بالنسبة للموظف حافزا من اجل القيام بواجبه المهني بنجاعة وفعالية ،وهكذا انقلبت القيم والمبادئ وأصبح الشخص الذي لا يقبل الرشوة إنسان لا يعتد به بينما المرتشي رجل متفهم ويساعد المواطنين على قضاء مآربهم . إن شيوع هذه الحالة الذهنية لدى الأفراد تبين بأن المجتمع لم يرق بعد إلى الوعي بمخاطر الفساد، فليس هناك إدراك لدى الجميع بخطورة الأضرار التي يلحقها الفساد بالمجتمع وما يشكل من الإعاقة في سبيل نموه وتطوره. وفي تقديرنا فإن النخبة المثقفة والإعلام والمجتمع المدني يتحملون إلى جانب الحكومات المسؤولية الكبرى عن استمرار هذا الواقع . فانخراط المجتمع في محاربة الفساد يستوجب إرادة سياسية حقيقية مبنية على خطاب واضح شفاف وجريء ومجتمع مدني فاعل وإعلام متيقظ. - دكتور في القانون العام