ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إِكْتِشَافُ العَالَمِ الجَدِيد وَالإِشْعَاعُ الأَنَدُلِسيِ فىِ الثَّقَافَةِ الإِسْبَانِيَّة
نشر في هسبريس يوم 30 - 11 - 2014

الثاني عشر من شهر أكتوبر من كلّ عام، هو يوم العيد الوطني لإسبانيا التي إحتفلت به هذا العام مؤخّراً فى ظلّ عاهلها الجديد فليبي السّادس دي بوربون إحتفالاً كبيراً ومُثيراً ،ويُسمّى هذا اليوم عندهم (يوم الأسبنة) أو (Día de la Hispanidad) وهو اليوم الذي وصل فيه "كريستوبال كولومبوس" إلى العالم الجديد من عام 1492، وطفقتْ فيه إسبانيا فى نشر وذيوع وتأصيل ثقافتها ولغتها فى الشقّ الآخر من العالم وراء بحر الظلمات، إقترنت ذكرى هذا الإكتشاف، الذي غيّر خريطةَ العالم، بإسم هذا البحّار المغامر مثلما إقترن فتح الأندلس بالبطل طارق ابن زيّاد، وفى الوقت الذي يحتفي فيه الإسبان بهذا اليوم بأعلى مظاهر الزّينة، والبذخ، والبهرجة يعبّر فيه العديد من السكّان الأصليين فى أمريكا اللاتينية، والمهتمّين بتاريخ القارة الأمريكية من مختلف أنحاء المعمور من مؤرّخين، وباحثين، وكتّاب، وشعراء ، وسياسيّين، وعلماء البيئة إلخ..، يعبّرون عن مشاعر إستيائهم من تكريس أيّام شهر " أكتوبر" من كل عام كعلامات بارزة، وصُوًى فارقة فى تاريخ البشرية، بقدرما ينبغي إعتبارها - فى نظرهم- نقاطَ تحوّل فى صفحات تاريخ المهانة، والتشتّت اللذين لحقا بأجناس شعوب هذه القارة من السكّان الأصلييّن فى الأراضي التي إكتشفها كولومبوس وبحّارتُه منذ خمسة قرون ونيّف، وهو يحسب أنّه متّجه إلى آسيا الشرقيّة .على شطآن هذه الأراضي التي لم تكن قد وطئتها قدم أوربية قطّ، رَسَتْ مراكبُه الشراعيّة الثلاثة "سانتا ماريا" (أكبرها) و"لانينيا " (أوسطها) و"لابينطا "(أصغرها) فى جزيرة غواناهاني(الباهاماس)، حصل ذلك عندما صاح أحد البحّارة " رُودْرِيغُو دِي تْرِيَانَا" بأعلى صوته من على حيزوم سفينة "لا بينتا" : (الأرض..الأرض تبدو فى الأفق...) !.
كولومبوس والأرضُ البِكْر
تُشير معظمُ المصادر أنّ كولومبوس كان رجلاً يميل إلى العزلة، ويتحاشى الإختلاط . وفى التاريخ المتراوح بين 1459-1481 بدأ كولومبوس سفرياته نحو السّواحل الأوروبيّة لتمويل مغامراته .كان مغامراً كبيراً بل من أكبر مغامري التاريخ فى عصره .ففي سنّ19 ربيعاً إنضمّ إلى أوّل بعثة مسلّحة فى محاولة من ملك جِنْوَة "دانييرو دي أنجو"عام 1459 للسّيطرة على نابولي لصالح إبنه حيث لم يفتأ يطالب بهذا العرش من الأراغونيين . تصف بعضُ كتب التاريخ كذلك أنّ كولومبوس كان من القراصنة الكبار،شارك فى عدّة مناسبات ضمن غارات على جنوة، والبندقية ،هذه الحروب كان من أبرز شخصياتها وضحيتها أيضاً الرحّالة الإيطالي الشهير "ماركو بولو"، إشتغل كولومبوس فى صفوف فرسان البحر فى خدمة بلاده ما بين 1461-1465 حيث حصل على العديد من الغنائم منها عشرات السُّفن التي تنتمي إلى البندقية ، كما قام بالمشاركة فى هجمات على المرافئ المغاربية فى شمال إفرقيا التي كان يعتبرها بعض الأوربييّن أوكاراً للقراصنة، ففى 1461 قاد كولومبوس سفينةً مسلّحةً إلى ميناء تونس بهدف إطلاق سفينة إسبانية أخرى كانت مُحتجَزة هناك من طرف مسلّحين، وخلال هذه الغارة البحرية نجا كولومبوس فى عرض البحر على إثر تمرّد قام به البحّارة الذين رافقوه، وأعلنوا العصيانَ عليه حيث فرّ بجلده إلى مدينة جنوة. عمل كذلك كبحّار محارب لدى ملك فرنسا، وحاول الحصولَ على ثروة هائلة لتعاطيه التجارة إلاّ أنّه فشل فى آخر المطاف.
وفى 1479 إنتقل للإقامة فى البرتغال حيث شارك فى عدّة بعثات إلى السّواحل الإفريقية خاصّة إلى سواحل غينيا غرب إفرقيا ،وهناك إتضح له عبثية فكرة الوصول إلى الهند بالدوران حول إفرقيا إذ لولا وصول كولومبوس فى خط متوازٍ إلى الأراضي الأمريكية فيما بعد لكان السفرُ طويلاً بل ومُستحيلاً بالنسبة لمراكبه الشراعيّة .
كان كولومبوس محارباً شجاعاً شديدَ المراس، كان مُثقلاً بالفضول والتطلّع نحو إكتشاف آفاق بعيدة،وعوالم جديدة، ومجاهل نائية لقد حاول الكثيرون حبكَ العديد من القصص والحكايات التي حيكت، حوله وتحوّلت فيما بعد إلى أساطير، إلاّ أنّ شخصيته الحقيقية تبقى محصورةً فى بحّار طموح ، ومغامر كبير،وهناك من المؤرّخين مَنْ يؤكّد أنّه لم يصطحب معه خلال رحلته الإستكشافية إلى أمريكا الوسائلَ والأدوات العربية ( البَوْصَلة ، الأسْطُرْلاب ، الخرائط إلخ) وحسب، بل كان معه كذلك أناس من أصل عربي يُجيدون اللغةَ العربية لظنّه أنه كان متّجهاً نحو الهند وليس إلى قارة بِكر جديدة.
الإكتشاف والإشعاع الحضاري الإسلامي
يرى بعضُ المؤرّخين المُنْصِفين المتخصّصِين فى تاريخ أمريكا اللاتينية أنّه من الأخطاء التي يقع فيها بعضُ الكتّاب والباحثين فى مجال ما يُسمّى بإكتشاف العالم الجديد قولُهُم بعد أن أجازوا مصطلح "لقاء" بدلَ " إكتشاف" بأنّ هذا اللقاء كان بين عالميْن أو ثقافتيْن إثنتْين وهذا حيفٌ بيّن،وتحريف صارخ، وخطأ واضح ، وأنّه من الإنصاف القول أنّ هذا اللقاء كان بين ّثقافات ثلاث وهي الأوربية، والأمريكية الأصلية إلى جانب الإرث الزّاخر والتأثير العميق للثقافة الإسلامية التي جاءت مع الإسبان الذين وفدوا على هذه الديار زرافات ووحداناً بُعَيْد الإكتشاف ،والهِجْرات المتوالية والمتعاقبة التي حدثتْ فيما بعد بشكل متواتر غير منقطع حيث أطلق على هذه الاراضي المكتشفة ب"إسبانيا الجديدة" أو "العالم الجديد" .
وإسبانيا الجديدة هذه لم تقم سوى على إشعاع، وآثار، وأرضية الحضارة الإسلاميّة المشعّة ،حتّى وإن صادفت نهايتها( سياسيّاً) مع بداية الإكتشاف، إلاّ أنها كانت لمّا تَزَلْ قائمةً، متأصّلةً ، متجذّرةً فى مختلف مظاهر الحياة وداخل الأنفس، والعقول ذاتها.
ففي ذلك الإبّان ،أيّ بعد تاريخ 12 إكتوبر1492 لم تكن الرّقعة الجغرافية الإسبانية خاليةً من العرب، والبربر المسلمين، فمنهم من هاجر وفرّ بجلده ،وهناك من آثر البقاءَ متظاهراً باعتناق الكاثوليكية ،والذين نجوا وبقوا سُمّوا بالموريسكيين ،فقد كان منهم أمهرَ الصنّاع،والمزارعين، والمهندسين، والعلماء، والمعلمين وخبراء الريّ والفلاحة ،والبستنة، بل لقد ظلت مسألة تسيير العديد من المرافق الحيوية،والقطاعات الأساسية، فى البلاد ليس فى الأندلس وحسب (جنوب إسبانيا) بل وفى مناطق أخرى من شبه الجزيرة الإيبيرية خاصة فى شمالها الشرقي بيد المسلمين.
وهناك وثائق تؤكّد هذه الحقائق التاريخية ، فكيف والحالة هذه ألاّ يَحْمِل الإسبانُ الذين هاجروا إلى العالم الجديد معهم هذا "التأثير"..؟ بل قد يصل بنا التساؤل والقول بأنّ هناك مِنَ المسلمين المغلوبين على أمرهم مَنْ هاجرخفيةً مع أفواج المهاجرين الإسبان ، وإلاّ مِنْ أين جاءت هذه الدّور،والقصور ذات الباحات،والساحات، والنافورات العربية التي بنيت فى العديد من بلدان أمريكا اللاتينية ..؟ بل ومن أين هذه الأقبية، والأقواس،والمُقرنصات، والعقود والشبابيك ذات الطابع الإسلامي البحت ؟ والأبعد من ذلك هذه الكنائس التي كانوا يبنونها غداةَ وصولهم ويظهر فيها الأثر العربي والإسلامي بوضوح ،ولقد إستعملَ بعضُهم الخطّ العربي المحتوي على أشعار،وأقوال، وحِكَم، وآيات قرآنية إعتقاداً منهم أنه من علامات الزّينة،والزّخرفة فى البيوتات الكبرى، والقصور فى إسبانيا، وتعلو وجهَ المرء (المسلم) إبتسامةٌ ممزوجةٌ بالرضى والمرارة معاً عندما يجد بعضَ تلك الأشعار، والآيات القرآنية وقد وُضِعت مقلوبةً على تلك البلاطات، أو الرخامات،أو الخشب، أوالزلّيج..!.
أدب المنفى داخل الوطن
كان عند هؤلاء الموريسكييّن المغلوبين على أمرهم أدب سرّى أو ما كان يُطلق عليه ب "أدب المنفى داخل الوطن" وهو أدب مؤثّر وبليغ يسمّى باللغة الإسبانية الخَامْيَادَة أوالخاميّة بمعنى(العجميّة)،وقد أطلق عليه هذا النّعت لأنه أدب مكتوب إنطلاقاً من اللغة الإسبانية، ولكنه يستعمل حروفاً عربيةً ،وكان الإسبان من ناحيتهم يُطلقون هذا اللفظ على اللغة القشتالية المُحرّفة بمزجها بكلمات عربية، وكان يتكلّم بها المسلمون إسبانيا فى آخر عهدهم بالأندلس ،ولمّا خشي الحكّام الكاثوليك على هؤلاء من التكاثر،والتزائد اوإستعادة النفوذ قرّر الملك فيليبّي الثاني بأن يُصْدِر ظهيراً أو مرسوماً بين1609-1614 بطرد آخر الموريسكيين، أو بمعنى أصحّ وأدقّ بطرد ما تبقّى من المسلمين المُنَصَّرين والمُهَجَّرين عنوةً، وقهراً، وقسراً من ديارهم، ومن وطنهم فى الأندلس وفى سائر المناطق الإسبانية الأخرى . يشير الباحث "لوبث بارالت":" أنّ هذا القرار الدرامي المُجْحِف الذي إتّخذه فليبي الثاني كان سبباً فى إثارة إحتجاج ٍصارخ، وجدلٍ هائج ما زال يُسْمَعُ صداهما حتّى اليوم" !.
وإذا كان هذا يحدث فى القرن السابع عشر (1614) أي 122 سنة من وصول الإسبان إلى"العالم الجديد"فإنّ ذلك يدلّ الدلالة القاطعة على أنّ إسبانيا عندما "إكتشفتْ " أمريكا كانت لمّا تزلْ واقعةً تحت التأثيرالعربي الإسلامي، وأنّ العادات، والتقاليد، وفنون المعمار وأسماء الحرف، والمهن، والصناعات، والإبتكارات، والآلات البحرية، والعسكرية، والمِلاحة،والفِلاحية وعشرات الآلاف من المسمّيات كانت عربيةً أو على الأقل من جذر أو أصل أو أثل عربي،وهي التي إسْتُعْمِلت فى مختلف بلدان أمريكا اللاتينية، وظلّت مُسْتَعملة بها ولا تزال إلى يومنا هذا .
ويتحدّث الباحث المكسيكي "مانويل لوبثْ دِي لاَ بَارّا" فى بحث له تحت عنوان"عام 1492" عن التأثير الإسلامي فى الحياة الإسبانية بشكل عام خلال هذا التاريخ فيشير:" أنّ حربَ إسترجاع غرناطة دامت 11 سنة ،وانتهت بانتصار الملكيْن الكاثوليكييْن فى قصرالحمراء فى 2 يناير 1492 وشكّل ذلك حدّاً للوجود السياسي الإسلامي الطويل فى إسبانيا الذي يرجع إلى 711 م ،إلاّ أنّ الوجود الفعلي للمسلمين فى شبه الجزيرة الإيبيرية لم ينته عام 1492 ففى غرناطة وحدها كان يعيش حوالي 4 ملايين من السكّان، فى حين كانت هناك 6 ملايين تتوزّع على باقي إسبانيا، والقِسط الأكبر من هؤلاء السكّان كانوا من العرب والبربر،وكان معظمهم يعمل فى الفلاحة، والصناعة، وتربية المواشي . وكانت لديهم ثروات هائلة من أراض خصبة بفضل علومهم الفلاحية الواسعة ومجهوداتهم، وشاءت الأقدار أو الصّدف أنّه فى نفس ذلك التاريخ من القرن الخامس عشر بدأ عصر الإكتشافات الجغرافية الكبرى، وأضيفت قارة جديدة إلى خريطة العالم بعد رحلة كولومبوس التاريخية حيث إنهارت مفاهيم الفلسفة الجغرافية القديمة ، ونظراً لقرب، بل ولتلاقي المسافة الزمنية بين سقوط غرناطة وهذا الإكتشاف (نفس السنة) فإنّه لا يمكن بحال من الأحوال النظر إلى إكتشاف أمريكا بِمَعْزِل أو بِمَنْأىَ عن التأثيرات العربية الإسلامية التي كانت حديثةَ العهد ،والتي كانت لمّا تَزَلْ تفعل فعلها واضحاً فى المجتمع الإسباني على الرّغم من إنهيار الحكم السياسي الإسلامي فى الاندلس".
الثقافة الثالثة
يؤكّد الباحثون فى تاريخ القارة الأمريكية أنّ المكتشفين وصلوا إلى بلدان هذه القارّة مستحضرين معهم ثمانية قرون من الوجود العربي والتأثير الإسلامي فى إسبانيا، ومختلف مظاهر الرقيّ، والرفاهية، والتقدّم التي برع فيها المسلمون فى الأندلس فى مختلف المرافق الثقافية،والأدبية، والشعرية والعلمية،والفلاحية، والعُمرانية والمعمارية وسواها ،فضلاً عن التأثير اللغوي ، ففى كل لحظة كانوا يستعملون الكلمات العربية أو التي هي من أصل عربي فى مختلف المجالات، وهي ما زالت موجودة ومنتشرة فى هذه الربوع إلى اليوم .
ويقدّم كتابُ "الثقافة الثالثة" للباحثة المكسيكية إكرام أنطاكي( من أصل سوري) فكرةً واضحةً عن هذا الزّخم الحضاري الإسلامي الهائل الذي إستقدمه المكتشفون ،وهو كتاب ثقافة وفنّ يضمّ العديدَ من الصّور التي تقدّم الدليلَ على الغاية من وضعه من غير إستعمال خطاب مضخّم ،إنه كتاب يعالج تأثيرالمسلمين فى المكسيك وبالتالي فى باقي بلدان امريكا اللاتينية بالخصوص فى ميدان المعمار ومختلف مظاهر الحياة الاخرى ،وتقول المؤلفة فى ذلك:"الحديث لا ينقطع عن التأثير الإسباني المكسيكي، ويكاد لا يُذكر شئ عن الجذور الإسلامية العربية التي هي فى الواقع أصل هذا التأثير".وتضيف: أنّ "اللقاء" الذي تمّ لم يكن بين ثقافتين إثنتين وهي الإسبانية والهندية الأصلية وحسب كما يقال من باب الحيف والشطط ،بل كان لقاءً بين ثقافات ثلاث ً مُضافاً إليها الثقافة العربية الإسلامية،التي تُعتبر عُنصراً مُكوِّناً هامّاً فى العالم الجديد .
وتؤكّد إكرام أنطاكي أنّ الذين قَدِمُوا من إسبانيا ليستوطنوا المكسيكَ،أو مناطقَ اخرى من هذه القارة، بعد وصول كولومبوس إليها كانوا بعيدين عن الحضارة ، وكانوا أقربَ إلى الوحشيّة والهمجيّة ،وأنّ الجانب المشرق الوحيد الذي جاءوا به معهم هو الإرث العربي الإسلامي،وقد طّعّم التأثير الإسلامي فى المكسيك بالهِجْرات العربية المتوالية التي حدثت فيما بعد حيث إستقرّت العديد من الأسر العربية والبربرية المترحّلة فى هذا البلد، وما فتئ أولاد وأحفاد هؤلاء يرجعون بأبصارهم، وأفئدتهم، وضمائرهم إلى ماضيهم وأجدادهم وكلهم فخر،وزهو، وإعجاب بهذا الماضي العريق.
ويشير الباحث المكسيكي أدالبيرطو رِيّوس فى نفس السّياق :"أنّه من العبث التأكيد على مصطلح"لقاء عالمين"أو ثقافتين إذ تبقى إفرقيا وآسيا بذلك خارجَ هذا المفهوم وهما شريكان فى هذا الموضوع تاريخياً".ويضيف الباحث: "من الصعوبة أن يفهم الإسبان لماذا لا تزال تلهمنا مواضيع الغزو، وهم يزعمون أنه ليس لهم أمثال شبيهة بما حدث مع الرّومان والعرب بالنسبة لإسبانيا نفسها، ويجهلون أو يتجاهلون أنّ التاريخ الذي بدأ منذ خمسمائة سنة له معنى تراجيدي فى حياتنا " .
ويؤكّد الرّوائي المكسيكي الرّاحل كارلوس فوينطيس فى كتابه"سيرفانطيس أو نقد القراءة" فى مجال التأثير العربي والإسلامي فى إسبانيا والذي إنتقل بشكل أو بآخر إلى القارة الجديدة :"أنه من العجب أن نتذكّر أن الثقافة الهيلينية وكبار المفكرين الرّومان الضالعين عمليّاً فى المناطق الأوربية إستعادوا مواقعهم، وحفظت أعمالهم بفضل ترجمتها إلى اللغة العربية ،فضلاّ عن العديد من الإبتكارات العلمية، والطبية فى الوقت الذي كانت فيه أوربا مريضةً ويتمّ عِلاجُها بواسطة التعزيم والرقية والتعويذ والتمائم " .ويضيف:" فعن طريق إسبانيا المسلمة أدخلت إلى أوربا العديد من أوجه التأثيرات الهندسية المعمارية الموريسكية حيث أصبحت فيما بعد من العناصر المميّزة لخصائص الهندسة القوطية".( أنظر مقالي فى"القدس العربي" حول هذا الكاتب العدد 7129 بتاريخ 17 أيار(مايو) 2012) .
كلمات عربيّة وأمازيغيّة
ويرى المُستشرق أمريكُو كَاسْترُو أن معظمَ الكلمات الإسبانية التي لها علاقة بالعدّ، والقياس، والأكل ،والسّقي ،أو الريّ،والبناء،كلها من أصل عربي ، فَمَنْ يبني البِنَاء ؟ ألبانييل Albañil(بالإسبانية) وهو البَنَّاء ،أو الباني،وماذا يبني؟ القصرAlcázar، القبّة Alcoba ، السّطح Azoteaأو السقف (وهي بالتوالي تُنطقُ فى الإسبانية : ألكَاسَرْ،ألْكُوبَا،أسُوطييّا). وكيف وبماذا يسقي أو يروي الأرضَ؟ بالسّاقية Acequia، والجب Aljibe ، وألبركة Alberca (وتثنطق فى الإسبانية):أسِيكْيَا،ألْخِيبِي،ألبيركَا. وماذا نأكل بعد ذلك؟ السكّرAzúcar، الأرزArroz ،النارنج Naranja ،الليمون Limón، الخُرشُف Alcachofa،التّرمُسAltramuces ، السّلق Acelgas، السّبانخ Espinacas(وتُنطق فى الإسبانية بالتوالي: أسوُكار،أرّوث،نارانخا،الليمون ،الكاشُوفا، ألترامويسيس ،أسيلغا، إيسبيناكاس).وبماذا تزدان بساتيننا،أوتُزَيَّنُ حدائقنا..؟ بالياسمين، JazmínوالزّهرAzahar، والحبَق Albahaca، وتُنطق بالإسبانية: أثهَار، خَاثْمين، وَألبَهاَكا،) بل إنّ هناك كلمات أمازيغية إستقرّت بدورها فى اللغة الإسبانية مثل (تَزَغّايثْ) أو الزغاية Azagaya (وتعني الرّمح الكبير) وقد أثبتها المستشرق الهولاندي الشهير"دوزي" فى معجمه ككلمة تنحدر من أصل أمازيغي بربري، وإستعملها كولومبوس فى يومياته، وتُجمع كلمة (آش) ب "أشّاون" وتعني القرون ومنها إسم مدينة (الشّاون) فردوس الجبل الجميلة، ويؤكّد صاحب " الإحاطة فى أخبار غرناطة " إبنُ الخطيب أنّ النّهر الوحيد فى شبه الجزيرة الإيبيرية الذي يحمل إسماً أمازيغياً هو"مدينة آش" ،ونهر"وادي آش" أيّ وادي القرن وهو فى الإسبانية "Guadix "، أو "río de Acci"، "Wadi Ash"،" río Ash " بالقرب من مدينة غرناطة.إلخ (وهكذا الأمر مع العديد من الأسماء المتعلقة بالقبائل وبعض الضّيع والمدن مثل مدينة Teruel الإسبانية (بالقرب من سراقسطة) المقتبسة من إسم مدينة " تروال" المغربية بالقرب من وزّان ( وهي من قبائل بربرصنهاجة)، ومدينة Albarracín بالقرب من ترويل الإسبانية، ويرجع إسم هذه المدينة الى القبيلة البربرية "بني رزين" التي عاشت بها وإستقرت في ربوعها في القرن الثالث عشر، وآخر ملوكها حُسام الدّولة الرزيني، وهي تنحدرمن" بني رزين " وهي قرية أمازيغية جبلية مغربية والكائنة فى الطريق السّاحلي الرّابط بين تطوان والحسيمة،.ومنها كلمات مثل Gomera من "غمارة" وهي عند الإسبان إسم جزيرة فى الأرخبيل الكناري، de Gomera Vélez وهذه الكلمة من إسم " بادس" وهو(إسم شبه الجزيرة المحتلة الكائنة بجوار شاطئ " قوس قزح" وبني بوفراح ونواحيها بإقليم الحسيمة)،وإليها يُنسب الوليّ الصّالح أبو يعقوب البادسي،الذي ذكره إبن خلدون فى مقدمته بكل تبجيل،كما تحمل إسمَه الكريم أعرقُ ثانوية فى مدينة الحسيمة، وإسم بادس مُستعمل بكثرة فى إسبانيا مثل:Vélez Rubio, Vélez Malaga,Velez Benaudalla,Velez Blanco ,Rio Vélez, إلخ ،ناهيك عن أسماء المنتوجات التي أدخلها المسلمون إلى أوربا فى مختلف الحقول والمجالات . ويصل "أمريكو كاسترو" إلى نتيجة مثيرة فيقول: " إنّ فضائلَ الأثر والعمل عند العرب والمسلمين ،والثراء الإقتصادي الذي كان يعنيه هذا العمل وهذا الأثر كلّ ذلك قُدِّمَ قُرْباناً وضحيةً من طرف الحكّام الكاثوليك والإسبان". ويختم "كاسترو" بكلماتٍ مغلّفةٍ بسخريةٍ مُرّة من بني طينته مُشيراً :" أنّ ذلك الثّراء ، وذلك الرّخاء ، لم يكونا يساويان شيئاً إزاء الشّرف الوطني ."..!!!.
-كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.