للطفولة ذكريات تطفوا على سطح أفكارنا كلما تقدم بنا العمر..تغازلنا هذه الذكريات في اشد أوقات الحياة صعوبة فتتركنا نستلقي على فراش الذاكرة ليعود بنا الزمن إلى الوراء راسما طرقا اجتزناها وأحلاما تيقننا باستحالتها و حياة اختلفت مسالكها لنصير اليوم في أماكن لم نكن نتخيلها.. أكثر شيء أتذكره في الطفولة هي تلك الرسومات الكرتونية التي كنا عندما نخرج من المدرسة كل يوم مساءا نسابق الريح لرؤيتها،لم تكن لدينا في ذلك الوقت سوى قناتنا الأولى التي تعطينا وجبتين للترفيه يوميا: واحدة مع الغذاء وواحدة في المساء،هذه الرسومات لم تكن مجرد وسيلة ترفيهية كانت تدغدغ براءتنا في ذلك الوقت،لكنها كانت لحظات تعليمية وتثقيفية ربت فينا الشجاعة وحب الاجتهاد واحترام الآخرين،بل وتجاوزت ذلك في كثير من الأحيان،لتنمي من خيالنا وتجعل من أفق تفكيرنا أفقا رحبا تتمازج فيه الحكايات والأساطير.. كان "ماوكلي فتى الأدغال" وهو يقاتل وحوش الغاب ويعيش مع الذئاب شخصية عششت في أركان لا وعينا الطفولي لتجعل من أحلامنا تتمحور حول الطبيعة الخلابة وجماليتها،كان"الكابتن ماجد" يرسم في أعماقنا ذلك الإصرار القوي على مواصلة الدرب وعلى النجاح في الحياة مهما كانت قوة الصعاب،كانت "سالي" ترسم فينا ذلك العمق الإنساني وأهمية قضايانا الاجتماعية،و ما إلى ذلك من تلك الشخصيات الجميلة التي كانت تتحفنا بها استوديوهات الزهرة للدبلجة،فهذه المؤسسة استطاعت في ذلك الوقت ان تختار الكثير من المسلسلات الكرتونية المميزة وتدبلجها بلغة عربية مفهومة،وأحيانا كانت تقص من بعض مشاهدها العنيفة بعض الشيء وذلك لكي تتلاءم مع عقليات الناشئة كما حدث في المسلسل الشهير "النمر المقنع".. لم تكن الرسومات الكرتونية هي الوحيدة التي طبعت طفولتنا،فقد تربينا على حب المطالعة والقراءة،فكنا نتسابق للحصول على قصص العم جحا،ونتبادل بيننا قصص المكتبة الخضراء،وننتظر بشغف حلول موعد مجلة "العندليب"لشرائها،كانت الحكايات المسلية لا تخلوا منها أحاديثنا،فرغم الظروف الاجتماعية الصعبة التي كان الأكثرية منا يعيشها-كنت أتي شخصيا إلى المدرسة بصندل بلاستيكي ممزق وملابس رثة-،كان حب المطالعة ركنا مهما من أركاننا،وهو ربما السبب الذي كان يدفع بعض الأساتذة-سامحهم الله- في الاسترزاق بدريهماتنا المعدودة،فقد كان بعضهم يحصل على القصص من مكتبة المدرسة ويكتريها لنا بنصف درهم أو أكثر. فشخصيا،عندما كنت اقطع تلك الكيلومترين على قدمي للعودة من المدرسة إلى المنزل مساءا،كانت تزدحم في ذهني شخصيات أليس والضفدع المسحور وجون فالجان وغيرها من أبطال الحكايات،لتختلط مع شخصيات السندباد البحري و بسام و كريندايزر،فانكب ليلا على صياغة حكايات جديدة يصنعها عقلي الصغير،فرغم ان والدتي الحنونة كانت تعتقد في كثرة قراءتي للقصص عاملا سلبيا،إلا ان تلك العوالم الجميلة التي صنعتها تلك الحكايات ساعدتني كثيرا على تطوير ملكاتي الدراسية في ذلك الوقت،رغم قسوة الشارع و رغم الجهل الكبير الذي كان متفشيا في بداية التسعينات بمدينة صغيرة كأولاد تايمة ،استطعنا ان نخرج من تلك الدوامة بفضل هذه العوامل الصغيرة التي قد يحتقرها الإنسان.. أقارن بين تلك الأوقات وهذه الأوقات،أقارن بين زمن "الرغيف العجيب" وزمن "الفايسبوك"،أقارن بين زمن"قصص جحا" وزمن البلايس تايشن والعاب الفيديو،فأرى فرقا بين أطفال تلك الحقبة وكثير من أطفال هذه الأيام،فالطفل حاليا لا يتجاوز عمره 11 سنة لكنه يمتلك حسابا في الفايسبوك ويتعرف على فتيان وفتيان في كثير من الأحيان يفوقونه عمرا وتجربة،الطفل الحالي كثيرا ما جعلناه يتخلى عن مشاهدة أغاني الحب والبراءة كتلك التي كنا نراها صباح كل احد في القناة الصغيرة وعوضناها له بأغاني نانسي وهيفاء،الطفل الحالي يلعب العاب الفيديو العنيفة فتجده يقتل الأشرار بمسدسه أو سيفه،ولا تأخذه فيهم لا شفقة ولا رحمة،بل ان بعض الألعاب ك mortal combat تعطي للطفل إمكانية التمثيل بجثة الضحية بعد ان يتغلب عليها.. حتى الرسومات الكرتونية التي صارت تعرض حاليا انتفت فيها الكثير من قيم الإبداع وصارت تمشي في ذلك النسق البعيد عن فهم متطلبات الطفل،كنا في زمن "اليتيمة" أي التلفزة المغربية ننتظر بشغف تلك الحلقتين اليوميتين من سلاسنا الشيقة،والآن صار بإمكان الطفل ان يقضي كل يومه فاتحا فمه أمام زخم سبايس تون و الجزيرة أطفال،ولم تعد له سلسلة واحدة يتابعها،بل هو يتابع كل رسم يتحرك أمامه بحيث لم يعد قادرا على التمييز بين الجميل والقبيح... قطعا،لم تكن تلك الفترة القديمة بعض الشيء بمثابة جنة الله فوق الأرض،والأكيد أيضا ان الفترة الحالية ليست سيئة إلى درجة اتهامها بأنها زمن الرداءة والابتذال،ففي كل فترة من الزمن تلتقي عدد من السلبيات وعدد من الايجابيات،لكن ما نخاف منه هو ان تتحول السهولة في الحصول على الأشياء إلى سبب كاف للقضاء على جمالها وروعتها،بالماضي لم يكن هناك وجود لا للصحن هوائي ولا لشبكة الانترنت،أما الآن فبكبسة زر واحدة يتمكن الطفل من ان يستهلك أي شيء ترفيهي يريده،فلم تعد لقراءة القصص مفعولها القديم ما دام بإمكان الطفل التطلع إلى أمور أخرى اكبر من سنه وتفكيره الطبيعي.. أكثر ما نخاف منه ان تتحول البراءة في أعين أطفالنا إلى شر دفين تسببه العاب الفيديو التي تحمل في كثير من المرات الاديولوجية العسكرية الأمريكية القائلة بان كل ملتح إرهابي،أكثر ما نخاف منه هو ان تنمحي تلك الأناشيد الجميلة التي كنا نتعلمها ونحن صغار من قبيل "دب الحلزون" و "ارسم بابا" وغيرها فيتم استبدالها إما بأناشيد سخيفة لا تمت للإبداع بصلة أو بأناشيد إيديولوجية تظهر فيها الفتيات الصغيرات تلبسن الحجاب ويتغنين بعذاب القبر و فتنة الحياة الدنيا.. أكثر ما أخاف منه شخصيا،هو ان تتحول طفولتنا البسيطة إلى مجرد أسطورة قديمة يراها أطفالنا على أنها مرحلة تافهة لا تمت للحضارة بصلة،وأتحدث هنا عن حضارة "الشات" و "الفايسبوك"... [email protected] http://www.facebook.com/profile.php?id=568799586