(1978 1984 )(*) 1. توطئة يشير الأستاذ قيس مرزوق الورياشي ، أحد مؤسسي جمعية الانطلاقة الثقافية بالناظور ورئيسها الأول في شريط وثائقي أنجزه حول الجمعية (**) إلى أن فكرة التأسيس جاءت على إثر لقاء جمعه في مدريد سنة 1977 بصديقه الأستاذ والمناضل السياسي والحقوقي المرحوم عبد الرحمان طحطاح . ومعلوم أن إسبانيا في هذه الفترة كانت تعج بالحيوية والنشاط الحزبي والجمعوي كنتيجة لمناخ الحرية والديموقراطية الوليدة بعد زوال الحكم الشمولي للجنرال فرانكو وأيضا بسبب واقع التعدد الثقافي الذي يميز البلاد . وإذا كان هذا اللقاء بين أستاذين شابين وفاعلين أساسيين سيكون لهما الفضل الأول في تأسيس جمعية الانطلاقة الثقافية بالناظور في ذلك المكان وفي تلك الفترة لا يخلو من دلالة على الأقل على مستوى توليد الرغبة والحلم لدى هذين الفاعلين .حلم رؤية الريف يعيش نفس مناخ التنشيط الثقافي والفكري ، مع العلم أن إسبانيا كانت آنذاك بصدد التأسيس لمرحلة الدولة الديموقراطية ودولة الجهات . لكن مهما تكن قيمة وأهمية الأفراد في تحديد مسار ومآل الحركات الاجتماعية ، فإن المقاربة العلمية لهذه الحركات تقتضي النظر إليها في إطار صيرورة ومحددات تتجاوز الفاعلية والإنجاز الذاتيين للأفراد ، رغم قيمتها وأهميتها، لتطال السياق المجتمعي والتاريخي العام ، محليا ووطنيا بل وكونيا أيضا بما يوفره هذا السياق العام من فرص وموارد وآليات للتأطير قابلة للاستثمار من طرف التنظيمات والفاعلة والقائدة للحركات الاجتماعية عن وعي منها أو من دونه . ولأن جمعية "الانطلاقة الثقافية" بالناظور تتأطر ضمن حركة ثقافية أمازيغية وطنية وقد تأسست سنة 1978 بعد "جمعية البحث والتبادل الثقافي" وقبل جمعيتي "الجمعية الجديدة للثقافة والفنون الشعبية" المسماة اختصارا "تماينوت" وجمعية "الجامعة الصيفية " ليتوالى ظهور باقي الجمعيات الأمازيغية فيما بعد ، فإنني سأحاول في هذه المساهمة التوسل ،منهجيا ، بمفاهيم نظرية مثل " الموارد " و " الفرص السياسية" و "التأطير" بهدف تقييم تجربة جمعية الانطلاقة الثقافية بالناظور وهي من أهم وأوائل الجمعيات الثقافية الجادة، كما كانت تسمى آنذاك، بالإقليم بل وبالريف عموما . لم تكن هذه الجمعية ،بتقديري، مندرجة في سياق حركة ثقافية ،وطنيا ومحليا ، فحسب بل كانت منغرسة أيضا في صلب صيرورة حراك اجتماعي ،مدموغ سياسيا وحقوقيا ، للمطالبة بثقافة وطنية ديموقراطية وثقافة شعبية حسب تعابير وشعارات المرحلة . ولعل هذا ما يسوغ مقاربتها ، في مراحل حياتها الثلاث ( التأسيس ،النشاط ثم الاضمحلال) ، بواسطة الجهاز المفاهيمي ذاك . 2 . في تفكير تجربة التأسيس والنشاط تأسست جمعية الانطلاقة الثقافية بالناظور في أبريل 1978 في غضون حدثين وطنيين أساسيين هما المسيرة الخضراء وانتخابات 1977 . وإذا جاز اعتبار الحدثين المذكورين بمثابة فرص سياسية ممتازة ، فإن شبيبتي الحزبين وما ترسخ لديهما من وعي سياسي وحماسة وطنية في ظل أجواء الحدثين الوطنيين سالفي الذكر كان بمثابة موارد بشرية متاحة للاستثمار على طريق تأسيس وتفعيل أدوار الجمعية. ومما زاد هذه الموارد قيمة هو مزاوجتها في تناغم وتكامل بين وعي و حماس سياسي وطني مصدره الحزب والشبيبة و وعي ثقافي وعلمي أكاديمي مصدره الجامعة المغربية نتيجة تزايد أعداد الطلبة المنحدرين من الإقليم ومن الريف عموما وبصفة خاصة عندما عاين هؤلاء ولاحظوا الواقع المفارق المتمثل في تدريس اللغتين الفارسية والعبرية بالجامعة وهما لغتان أجنبيتان وتهميش الأمازيغية وهي لغة وطنية . غير أن ثمة موردا آخر من طبيعة لا مادية تم استثماره أيضا على طريق التعبئة المجتمعية حول الجمعية وأهدافها . يتعلق الأمر باستنبات الشعار الصيني المعروف " ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان " . يبدو أن حضور هذا الشعار في أدبيات الجمعية لم يكن حدثا عارضا ولا خاليا من الدلالة . فلقد تكون في المخيال الشعبي المغربي نوع من التمثل حول الناظور وحول الريف عموما مفاده أن الناس بهذه المنطقة يوجدون في بحبوحة من العيش بفضل عائدات كثيرة وبصفة خاصة العائدات المالية للعمالة الريفية بالخارج (العمال المهاجرون ) منذ أواخر ستينيات القرن الماضي. وكأن رسالة الجمعية المتوخاة من وراء الشعار هي التالية : حتى وإن كان التمثل السائد حول الريف صحيحا، فإن الخبز وحده (أي الغذاء المادي البطني) غير كاف لضمان حياة كريمة للمواطن .فضلا عن دلالات أخرى يحيل عليها الشعار مثل الخصاص الذي تعاني منه المنطقة فيما يخص البنيات التحتية الأساسية المحتضنة للفعل الثقافي ، وبالعلاقة مع ذلك ، غياب أو محدودية الفعل والنشاط الثقافيين إلى جانب التهميش الممارس ،آنذاك ، على الثقافة المحلية وعلى وعائها وحاملها الأساسي أي اللغة الأمازيغية . ولأن العلاقة موصولة بين الفرص المتاحة وطنيا وتلك المتاحة دوليا ، فإن الجمعية لم تتقاعس عن استثمار ما كان ممكنا دوليا من موارد وفرص وإمكانيات حول اللغة والثقافة وما يرتبط بهما من مواثيق وآليات دولية . هكذا وفي هذا الإطار حدث الانفتاح ، مثلا، على منظمة اليونيسكو وذلك ليس فقط من أجل تجذير خطاب الجمعية حول الاختلاف الثقافي وحول اللغة عموما ولغة الأم بصفة خاصة بل وأيضا من أجل إضفاء الطابع العلمي المسنود بالبحث والدراسة المنظمة على خطابها وترافعها . إذا كانت هذه العوامل مجتمعة ومتضافرة قد ساهمت في تأسيس الجمعية وفي سطوع نجمها إقليميا ووطنيا ، بل وفي بعض بلدان أوروبا أيضا ، فما هي طبيعة وقيمة أنشطة الانطلاقة الثقافية التي حققت هذا الامتداد الهام ؟ 3 . أنشطة السبق والريادة رغم قصر عمر الجمعية فإن أنشطتها قد تنوعت لتشمل مجالات اللغة والثقافة والأدب وفنون المسرح والسينما والتشكيل إلى جانب الفلسفة وعلم الاجتماع والتربية . غير أن هذا التنوع سار جنبا إلى جنب مع مطلب العمق والإحاطة المتعددة المداخل . وهذا ما يدل عليه التناول التيماتي (الموضوعاتي) لكثير من القضايا مثل المرأة ، الهجرة ، البادية ، الجامعة ، الصحافة ، الصحراء المغربية ، فلسطين ...(لمزيد من التفاصيل حول الأنشطة المنجزة من طرف الجمعية مع تاريخ الإنجاز ، أنظر " جمعية الانطلاقة الثقافية بالناظور" ، بحث لنيل الإجازة في شعبة تاريخ وحضارة ، للطالب مصطفى لهراوي جامعة محمد الأول كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة ، السنة الجامعية 2007/2008 ، غير منشور). مع استحضار إنجازات جمعية نظيرة هي جمعية البحث والتبادل الثقافي الرباطية المنشأ ودون خشية المبالغة يمكن القول إن الانطلاقة الثقافية قد كسبت رهان تحطيم طابوهين كبيرين بالريف ، بالنظر إلى ممكنات المرحلة ،هما الأمازيغية والمرأة . لقد كان التلازم ،بل التماهي ، بين الطابوهين واقعا وبينا ، حيث يصعب ملامسة أحدهما بمعزل عن الآخر . ولا غرابة في ذلك .فالحاضن الأول والأكبر للأمازيغية ،في الريف على الأقل ، هي المرأة وذلك لاعتبارات سوسيوثقافية باتت معلومة (الصورة الدونية العزلة عدم التمدرس العمل غير المأجور ...) لذلك يسجل لجمعية الانطلاقة الثقافية أنها سمت المرأة باسمها وكشفت واحتضنت المرأة الشاعرة . وبذلك ،لامست وقاربت الزوج : المرأة/الأمازيغية لأن هذه الأخيرة لا تقول الشعر إلا بالأمازيغية بل ولا تتكلم إلا بها . بهذا المعنى فقد مكنت الانطلاقة الثقافية المرأة والأمازيغية بالريف من استرجاع قوتهما الخطابية إذ لم تكونا ،قبل ذلك ، تتكلمان ، ليس لأنهما لا تعرفان الكلام بل لأنهما أسكتتا (بضم الهمزة) بالقوة ، قوة العوائق السوسيوثقافية على الأقل . إلى جانب كسر الطابوهات ، يرجع للجمعية فضل السبق والريادة في تأسيس ثقافة المهرجان بالمنطقة في وقت لم يكن معروفا إلا مهرجان مراكش للفنون الشعبية . ففي مدة وجيزة لم تتجاوز الخمس سنوات وبإمكانيات ووسائل محدودة جدا ، توالت مهرجانات الأغنية والشعر وهو ما عجزت عنه في حينه جمعيات أخرى كانت تصنف ضمن جمعيات التضاريس : الوديان والجبال والسهول... تولد وفي أفواهها ملاعق من ذهب . ولأن الجمعية اهتمت بالتكوين إلى جانب التنشيط الثقافي والفني والبحث العلمي فقد أرست تقليدا كان لا بد من انتظار سنين عديدة لنرى له شبيها ونظيرا . يتعلق الأمر بالجامعة الشعبية والتربية غير النظامية .فبالنظر إلى عدد الانخراطات بالجمعية حيث بلغت 2300 منخرط ومنخرطة وبالنظر أيضا إلى نسبة الطلبة المرتفعة من هذه الانخراطات وكذا الورشات والمشاتل مختلفة ومتنوعة التيمات المشتغل عليها ، فإن الجمعية قد أقامت بالفعل جامعة شعبية بالمدينة والإقليم في تلك المرحلة المتقدمة . وكان لا بد من انتظار حكومة التناوب لتطفو على السطح فكرة ومنهجية الجامعة الشعبية في عهد الوزير المنتدب المكلف بالشباب آنذاك السيد محمد الكحص . وأكثر من هذا فقد عملت الجمعية على تجنيد نخبة من أساتذة المواد الدراسية المختلفة المقررة في امتحانات البكالوريا من أجل إنجاز دروس للدعم في إطار نوع من التربية غير النظامية ، كما صارت تسمى اليوم ، لفائدة جمهور واسع من التلاميذ والموظفين وغير العاملين المترشحين لهذا الامتحان ، مما جعل نسبة النجاح في البكالوريا تسجل رقما غير مسبوق وبصفة خاصة في موسم 1978 .كما كانت الجمعية سباقة إلى الترافع حول الكثير من المطالب ذات الصلة بالأمازيغية و بالتعليم الجامعي صارت متحققة اليوم نذكر منها المطالبة بتأسيس معهد للدراسات الأمازيغية وقد رأى النور في صورة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ، إدراج الأمازيغية بالإعلام السمعي البصري وإنشاء النواة الجامعية بالإقليم . 4. في أسباب انفراط عقد الجمعية بعد عمر قصير لكن ثري ووهاج أخذ يدب في جسم الجمعية فيروس الاندثار . ومهما قيل عن أسباب وعوامل انفراط العقد الذي كان ينظم عمل الفاعلين داخلها ، فإن هذه العوامل ترتد بنظرنا إلى إثنين جوهريين يتصل أولهما بإشكال التداخل بين العملين السياسي والجمعوي المدني ويرتبط ثانيهما بإشكال التأطير داخل التنظيم (الجمعية كتنظيم Organisation). 4.1 . إشكال تداخل الجمعوي والسياسي بقدر ما كان التنشيط السياسي متحركا وطنيا وإقليميا منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي بمناسبة التعبئة حول قضية الوحدة الترابية للبلاد والاستحقاقات الانتخابية لسنة 1977 ، كان التنشيط الجمعوي قبل ظهور الانطلاقة الثقافية ،شبه منعدم بإقليم الناظور عدا ما كان من التنشيط الرياضي المعتاد .ولأن التنشيط السياسي وبصفة خاصة ذلك الذي كان من ورائه حزبا الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية وشبيبتيهما كان هو الطاغي ولأن الموارد البشرية المتحركة والنشيطة داخل الجمعية في غالبيتها هي نفسها النشيطة في التنظيمين المذكورين ، فإن الحدود والفواصل والرهانات أيضا لم تكن واضحة ولا محترمة بين طبيعة النشاطين الجمعوي والسياسي لدى الغالبية العظمى من الفاعلين داخل التنظيم . وقد أدى الاصطفاف الحزبي الأحادي لصالح أحد الطرفين المذكورين في النهاية إلى نفور واسع وجمود قاتل في أوساط الجمعية ثم كان الاضمحلال والانحلال . لقد شكلت الشبيبة الحزبية إذن نقطة قوة الجمعية و نقطة ضعفها الأساسية في نفس الوقت . 4.2 . إشكال التأطير داخل التنظيم الجمعوي غير أن ثمة عاملا آخر يفسر أفول نجم الجمعية هو مشكل التأطير والاستيعاب داخل التنظيم .أعني استيعاب وتأطير مختلف الأفكار وأشكال ومنهجيات الاشتغال المطروحة سواء من طرف النخبة المسيرة أو القواعد النشيطة .في هذا الإطار يمكن أن نفهم ما عاشته الجمعية من تعدد في الأصوات حول جدوى إقامة المهرجان في نسخته الأخيرة ، أي مهرجان نريد ؟ مهرجان للأغنية عموما أم للأغنية الأمازيغية تخصيصا ؟ لماذا استضافة محمود درويش في مهرجان مخصص للشعر الأمازيغي ؟ هذه عينة من أسئلة لم يتم استيعابها وهضمها داخل التنظيم ففعلت فعلها في إذكاء الفرقة والتشتت . والظاهر أن نفس المشكل قد عاشته الحركة الأمازيغية فيما بعد عندما طرح مثلا ما سمي بيان الأستاذ محمد شفيق الذي لم يتم تلقيه بشكل إيجابي من طرف بعض مكونات الحركة و عندما غادرت مجموعة من المعينين الأوائل مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية . إلى هذين العاملين الجوهريين يمكن إضافة عامل آخر لا يقل أهمية هو استغراق الجمعية في الهم الثقافي المولد للجدل والتساؤل على حساب قضايا ومشاريع التنمية البشرية المروجة للمال . لكن هل باختفاء الانطلاقة الثقافية اختفت روحها ونفسها (بفتح الفاء) في العمل والعطاء ؟ الجواب بالنفي طبعا لأن المشعل تسلمته جمعيات أخرى من بعدها بقيادة فعاليات وأطر تلقت التكوين والتمرين الضروريين وتشبعت بفكر وثقافة الانطلاقة الثقافية . (*) مساهمة قدمت في الجلسة الثانية من الندوة المنظمة من طرف مركز الدراسات التعاونية للتنمية المحلية بالناظور حول " الثقافة المغربية في زمن العولمة " يومي 17 و18 أكتوبر 2014 . (**) قدم الشريط كأرضية للجلسة في اليوم الثاني من الندوة .