إذا لم تعلمنا الممارسة الدينية اليومية أن نحترم قوانين الدنيا فكيف نتصور أن نحترم قوانين السماء؟ ما لم نتعرض أثناء أداء شعائر الدين ومناسكه لنفحات الوشيجة الإنسانية والرابطة الروحية من أبوابها الإيمانية فلا داعي أن نخوض مع الخائضين في سبل السلام من ظهورها وأنفاقها. من هنا كان نهر الإيمان الذي تصب فيه خصال مشكاة النبوة بتعدد روافدها القلبية والسلوكية هو علامات للسير الإنساني، يُهتدى بها في هذه الدنيا على بصيرة واستنارة مبيِّنة؛ ذلك أن القصد الإيماني هو في عمقه تَطبُّع بسلوك مدني، من تجلياته: "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له")متفق عليه(.كما أنه وعي بجسامة المسئولية التي أنطقت الفاروق عمر رضي الله عنه لما ولي الحكم فصرح أنه "لو ماتت شاة على شط الفرات ضائعة لظن أن الله سائله عنها يوم القيامة"(حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لابن نعيم، 1/53). فمن لم ينهاه إيمانه عن قبض يده عن المال العام ليبسطها كل البسط فلا حاجة بقبضه أو إسداله في الصلاة ! إن الإيمان نظام حياة وأسلوب عيش وقطب الرحى الذي تدور حوله أواصر القربى الإنسانية، وليس أحوالا تحركها المنافع المؤقتة والمصالح الضيقة، أوزينة مفتعلة ترتبط بحدث موسمي أوطقس سياسي. لا جرم أنه بذرات، أصولها ثابتة، وفروعها تسري على الجوارح، فتثمر استقامة في تعامل الإنسان مع ذاته وغيره، ومع الكون في ظاهره وباطنه. لأن الإيمان مصدره تلك القوة الأزلية التي تتنزل من صفة الله المؤمن على قلب الإنسان المؤمن، ليتوحد مع قوله : "كل آمن"(البقرة/284)، فتكتسي أقواله وأفعاله وأحواله وسيرته أنوارا قرآنية تمشي بين الناس، هذا المشي الأرضي إنما هو من خصال الإيمان التي في أصلها مُثمَرات كلمات الله، وتجليها في عالم الشهادة على صفات الإنسان المؤمن؛ إمداد وإرشادا وتقويما. في فهمنا الطفولي؛ الذي لم يشب بعد عن الطوق، ولمّا يستوعب سنن الله في كونه؛ نقزم قضية الإيمان، ونحصرها في عبادات معينة دون غيرها، ونحكم على إنسان ما بالكفر، ونخرجه من الملة، ونقصيه من علاقاتنا الاجتماعية، فقط لكونه لايصلي ولايصوم ولايحج، أويعاقر الخمر..بَيد أننا نتغافل عن كثير ممن نصبوا أنفسهم ناطقين باسم السماء، لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة، ولا يروا للآخر حقا ولا وصلة، ثم إنهم يأتون بعد ذلك ليتحدثوا عن الإيمان، و ما أدراك الإيمان ؟! فالذي يقتل إنسانا ولا يسعى لخيره وأمنه، ويسلبه ماله وولده هو في الحقيقة يغتال ما تبقى في نفسه هو من صفة الإيمان، فمن أخلاق أهل الإيمان أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسك، وفي الحد الأدنى أن يتركه بسلام، ولا يلقاه بالأذى في سربه وبدنه وقوته. والواقع أنه في جماعة البشر يتأسس التفاعل الإنساني حسب مستلزمات الإيمان التي تشيع المحبة، وتنشر قيم السلام باعتبار الناس كلَّ الناس نفوسا تستحق الوجود، وتلك المحبة ما هي إلا ذاك الإحساس الفطري بالإنتماء للنفس الواحدة التي خلقتها نعمة الإيجاد. ومن لم يستوعب هذه الوحدة في الأصل الإنساني لن يفقه وحدانية الخالق، ولن تحدث أمواج الإيمان في مشروعه الوجودي معنى روحيا ومعراجا سماويا، ولا منطقا استيعابيا وقبولا مرنا بسنن الاختلاف الأرضي. فمن المؤكد أن التجربة الإيمانية مهما اختلفت بيئتها وظروفها فإنها تشعرنا بقيمة الحياة، وتمنحنا الطاقة للاستمرار في المستقبل اللامتناهي، لكن شرط أن نحترم قانون السير الأرضي، في تناغم وانسجام مع منظومة الإيمان التي تنشئ أجيالا تشهد خيرا لفضلاء الإنسانية وأحرار العالم مهما اختلفت العقائد المؤقتة: "ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون"(المائدة/84)، وكما نقرأ عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنه لم يتحرج من وصف أحد سادات العرب "أن فيه خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة"(صحيح مسلم، 6/25). فلا مجال إذن أن نعاقب باسم الدين فللنار خازنها، ولا نَعِد بجنة نعيم لم ولن نملك مفاتحها. وإنه حري بحكماء الإنسانية ورجال الدين المتنورين أن يحيوا في الناس الإيمان الذي بشر به الأنبياء، وأن يجددوا طريقته القويمة نحو كمال الروح وفسحتها الإِنيّة، ويحصنوه من تعاويذ الأدلجة ونواقض السياسية خطابا وممارسة؛ لكي يؤتي أكله من محاسن الأخلاق ولطائف المنن دون وساطة بشرية غير مؤهلة، لأن معلمه هو الله تعالى الذي "لا يعطي الإيمان إلا من يحب"(المستدرك على الصحيحين للحاكم، 1/94)، و"أحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله"(شعب الإيمان للبيهقي، 9/7018). من أجل ذلك قلنا أن الإيمان بوصفه منهج حياة يقتضي معاني المحبة للناس، وتلك هي فلسفة الدين التي تقصد من الممارسة التعبدية تجديد ما بَلِي من ثوب الإيمان في الفكر والسلوك من غير تقية ولا تورية، ولكن بدعوة مستبصرة ومشرقة، تنعكس على معاملات الناس في حياتهم اليومية؛ وذلك خلاصة الإيمان. https://www.facebook.com/MajidiAbdeLmajid107