مقاصد عقدية: أولاً: الحب: من خلال السيرة النبوية تظهر عَلاقة هامة هي الحب؛ لذا فإن الإسلام اعترف بظاهرة الحب المتأصلة في كيان الإنسان، "بل جسَّدَ لنا – كما سيأتي تفصيله – ثلاث مراتب من الحب: الحب الأعلى، الحب الأوسط، والحب الأدنى، تعامل بها بنو البشر عبر التاريخ، وخلال العصور إلى أن يرث الله الأرض وما عليها"[1]. والأصل في مراتب الحب قوله – تعالى -: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24]. إن الإسلام اعترف بظاهرة الحب على أنه فطرة متأصِّلة في كيان الإنسان لا بد منه، ولا غنى عنه؛ لحكمة أرادها الله – عز وجل – قال الله – تعالى -: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]؛ لذا فإن الحب ينقسم إلى ما يلي: 1- الحب الأعلى، وهو حب الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم. 2- الحب الأوسط، وهو حب الآباء والأولاد والإخوان والأزواج والعشيرة. 3- الحب الأدنى، وهو إيثار حب الأهل والعشيرة والأموال والمسكن على حب الله ورسوله. فمن خلال الدراسة سوف تتم دراسة حب الله – تعالى – ورسوله – صلى الله عليه وسلم – لأنه الأساس الهام في حياتنا، والذي هو جزء من العقيدة الإسلامية. أ) حب الله تعالى: إن من أسس السيرة النبوية محبة الله؛ إذ لا تكون هذه المحبة دعوة باللسان، ولا هيامًا بالوجدان وكفى، بل لا بد أن يصاحِب ذلك اتباع لله – عز وجل – والسير على الطريق المستقيم، وتطبيق هذا المنهج في الحياة، فالمحبة ليست "ترانيم تغنَّى، ولا قصائد تنشد، ولا كلمات تقال، ولكنها طاعة لله…، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول – صلى الله عليه وسلم… وأول ما يطالب به المؤمن أن يكون ولاؤه لله"[2]. قال الله – تعالى -: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾[آل عمران: 31، 32]. عن أنس – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ثلاث مَن كنَّ فيه، وجَد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار))[3]. فالمحبة أن تؤثر الله على جميع الأشياء، والاهتمام بما يرضيه، فالإنسان المسلم عليه أن يكثر من سؤال الله تعالى الصدق في محبته والدوام، والثبات على المتابعة لله والرضا عنه، والتسليم لأمره، وعليه أن يكثر ذكره ومناجاته، وأن يتعب وينصب لله عز وجل، وأن يفرح بالشوق إليه، وأن يأنس به. إن علامة حب الله ألا تفتقر إلى غيره، ولا تسأل أحدًا سواه، يقول ذو النون المصري: "قل لمن أظهر حب الله: احذر أن تذل لغير الله، ومن علامة الحب لله ألا يكون له حاجة إلى غير الله"[4]. ومن ذلك أن تنأ لله على عباده، قال الله – تعالى -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ [البقرة: 165]. وتظهر محبة الله من خلال سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – إذ ضحى لأجلها بكل أمر من أمور الدنيا، ولقي ما لاقاه في دعوته لله طوال حياته. ومحبة الله غاية قصوى يتوخَّاها المسلم في أمره كله، ويسعى لنَيْلها صباح مساء، ويضحي لأجلها بكل أمر من أمور الدنيا؛ إذ هي حجر الزاوية التي يقيم المسلم عليها بنيانه الإيماني، وهي المعيار والمقياس الذي يعرف من خلاله المؤمن مدى علاقته بالله ورسوله، قربًا وبعدًا، وقوة وضعفًا. لذا؛ فإن محبة الله – تعالى – هي التي توصل العبد إلى مبتغاه، كائنًا ما كان ذلك المبتغى؛ لأن الله – سبحانه – إذا أحب العبد، يسَّر له وأعطاه وتكفَّل بذلك – جل جلاله. وحينما ترسخ محبة الله في قلب المؤمن، وتتعمق جذورها، كان الله – عز وجل – هو الغاية في كل شيء، وآثره المرءُ على كل شيء، وضحى من أجله بكل شيء؛ لأنه شعر بحلاوة الإيمان ولذَّة اليقين، فأصبحت بقية اللذائذ الدنيوية لا قيمة لها أمام هذه اللذة. هكذا يقع حب الله – عز وجل – في قلب المؤمن الصادق، الذي قد كمل بمعرفة جمال الله وجلاله، فوجد من الصلة الوَشِيجة والتجاذب الروحي ما لم يجده غيرُه، ووجد صلة المودة والقربى، صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود، وأصبح هذا المؤمن من الذين أحبهم الله – عز وجل – وأحبوه. الأثر التربوي لحب الله: 1- حب لقاء الحبيب في دار السلام، فلا يُتصور أن يحب القلب محبوبًا إلا ويحب مشاهدته ولقاءه، وإذا علم أنه لا وصول إلا بالارتحال من الدنيا ومفارقتها بالموت، فعليه أن يكون محبًّا للموت غير فارٍّ منه؛ لأن الموت مفتاح اللقاء. 2- أن يكون مؤثِرًا ما أحبه الله – تعالى – على ما يحبه في ظاهره وباطنه، فيلزم الطاعة، ويجتنب الكسل واتباع الهوى، ومَن أحبَّ الله لا يعصيه. 3- أن يكون مكثرًا لذكر الله – تعالى – لا يفتُرُ عنه لسانه، ولا يخلو عنه جنانه، فمَن أحبَّ شيئًا أكثر من ذِكره. 4- أن يكون أنسه بالخلوة ومناجاتهِ لله – تعالى – وتلاوةِ كتابه، فيواظب على التهجد ويغتنم هدوء الليل وصفاء الوقت، فأقل درجات المحبة التلذذُ بالخلوة بالحبيب، والتنعمُ بمناجاته. 5- ألا يتأسف على ما يفوته مما سوى الله – عز وجل – ويعظم تأسفه على فَوْت كل ساعة خلتْ عن ذكر الله وطاعته، فيكثر رجوعه عند الغفلات، بالاستعطاف والتوبة. 6- أن يتنعم ويتلذذ بالطاعة، ولا يستثقلها، ويسقطَ عنه تعبها. 7- أن يكون مشفقًا على جميع عباد الله رحيمًا بهم، شديدًا على جميع أعداء الله. 8- أن يكون في حبه خائفًا متفائلاً تحت الهيبة والتعظيم، وقد يُظَن أن الخوف ينافي الحب، وليس كذلك، بل إدراك العظمة يوجب الهيبة، كما أن إدراك الجمال يوجب الحب، وللمحبين مخاوف على حسب مراتبهم؛ كخوف الإعراض، وخوف الحجاب، وخوف الإبعاد. 9- كتمان الحب، واجتناب الدعوى، والتوقي من إِظهار الوجد والمحبة؛ تعظيمًا للمحبوب وإجلالاً له، وهيبة منه، وغَيْرة على سره. 10- الأنس بالله والرضا به، وعلامة الأنس بالله عدمُ الاستئناس بالخلق، والتلذذُ بذكر الله، فإن خالطهم فهو كمنفرد في جماعة ومجتمع في خلوة. ب) حب الرسول – صلى الله عليه وسلم -: إن محبة النبي – صلى الله عليه وسلم – بدءًا من المحبة القلبية، وتمني رؤيته وصحبته، فمحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – ليست كسائر المحبة لأي شخص، نعم إن محبة النبي – صلى الله عليه وسلم – عبادة عظيمة نعبد بها الله – عز وجل – وقربة نتقرَّب بها من خلالها إليه، وأصل عظيم من أصول الدين، ودعامة أساسية من دعائم الإيمان؛ كما قال – تعالى -: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ [الأحزاب: 6]. عن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولدِه ووالده والناس أجمعين))[5]. عن عبدالله بن هشام – رضي الله عنه – قال: كنَّا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو آخذٌ بيدِ عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا نفسي، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (( لا، والذي نفسي بيدِه، حتى أكون أحب إليك من نفسك))، فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((الآن يا عمر))[6]. إذًا فمحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – ليست أمرًا ثانويًّا أو أمرًا مخيرًا فيه، إن شاء المرء أحبه، وإن شاء لم يحبه، بل هي واجب على كل مسلم، وهي من صميم الإيمان، ولا بد لهذا الحب أن يكون أقوى من أي حب، ولو كان حب المرء لنفسه. فمن خلال السيرة النبوية يتبيَّن للإنسان المسلم حالة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في طريقة دعوته، وفي عبادته، وفي تعامله مع المخالفين، فتزداد محبة الرسول – صلى الله عليه وسلم. لذا؛ فإن أصل محبة الرسول – صلى الله عليه وسلم – تعني الطاعة والانقياد والتسليم بأوامره ونواهيه، قال الله – تعالى -: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]. لذا؛ فلا يسع أحدًا الخروجُ عن طاعته والعدول عمَّا أمر به، بل يجب الامتثال للأمر والنهي، وتقديمهما على حظوظ النفس ودافع الهوى. الأثر التربوي لمحبة الرسول: 1- أنها جالبة لمحبة الله – تعالى. 2- الإكثار من ذكره والثناء عليه، والصلاة عليه. 3- الاهتداء بهَدْيه، والتحاكُم إلى سنته. 4- الذبُّ عن شخصيته، ونصر سنته. 5- تمني رؤيته والشوق إليه. 6- محبة الكتاب الذي أُنزل عليه، والذي بلَّغه لأمته. 7- محبة آل بيته – صلى الله عليه وسلم. 8- تذكر العاقبة الحميدة والأجر العظيم لمحبي النبي – صلى الله عليه وسلم.