تميز الخطاب الملكي أمام البرلمان لهذه السنة بشدة انتقاداته للحكومة وللأحزاب السياسية ، سواء المشكلة للأغلبية أو التي تنتمي للمعارضة . ويعود سبب الانتقاد إلى ما بات يتسم به الخطاب السياسي والحزبي ، داخل البرلمان أو خراجه ، من ميوعة وتهريج جعل غالبية المواطنين متذمرين من الممارسة السياسية ومستائين من أداء الأحزاب والمؤسسات المنتخَبة ( برلمان ومجالس جهوية ومحلية ). وقد ساهم هذا الوضع المتأزم ، ليس فقط ، في تغذية العزوف السياسي وتعميق النفور من الإطارات الحزبية ؛ بل تجاوزه إلى إضعاف الحس الوطني والاعتزاز بالانتماء للوطن ، خصوصا مع توالي فضائح الفساد والإفلات من العقاب ثم هجوم الحكومة الشرس على القدرة الشرائية والمكتسبات الحقوقية والاجتماعية . وليس أخطر على الوطن ومستقبله من تجفيف منابع الشعور الوطني وتهديد الهوية المغربية . وقد تقاطعت أهداف ثلاث جهات عند تخريب الوطن وقتل الاعتزاز به ، وهي كالتالي : 1 ناهبو المال العام : يشكل النهب الممنهج للمال العام والتبذير السفيه وسوء التدبير أم المشاكل الاجتماعية والسياسية التي يعانيها المغرب وطنا وشعبا . ذلك أن جرائم المال العام تؤثر مباشرة على مداخيل الخزينة العامة وتحرم الدولة من موارد هامة كان من المفروض أن تخصص لدعم وتوسيع الاستثمارات وخلق فرص واعدة للتنمية المستدامة تشمل كل التراب الوطني وعموم شرائح المجتمع ، فضلا عن فتح فرص الشغل لآلاف العاطلين وتحسين الخدمات العمومية في مجال الصحة والتعليم والنقل والتكوين . واقع النهب والفساد هذا لم يزد المواطنين إلا تذمرا ونفورا من مؤسسات الدولة أمام عجزها عن حماية المال العام ، محاكمة الناهبين وتوفير الخدمات . من هنا فحب المواطنين لوطنهم هو من حب الوطن لمواطنيه ، فالوطن الذي يصادر حلم أبنائه في العيش الكريم ويسد أمامهم فرص الأمل في المستقبل ؛ والوطن الذي يلقي بأبنائه طعاما لأسماك القرش وتجار المخدرات ، أو يحولهم مجرمين يكدسهم في عنابر وأقبية السجون أو يرمي بهم في جحيم البطالة والفاقة والجهل ويذيقهم في كل لحظة مرارة المعاناة وحنظل المهانة ويمرغ كرامتهم ويهين كبرياءهم ويدوس على ما تبقى من أنفتهم في الإدارات والمحاكم والأقسام الأمنية والقضائية والاستشفائية .. لا يمكن أن يزرع حبه في نفوس يائسة متذمرة ولا أن يغذي فيها الاعتزاز بالانتماء إليه . فالحب شعور وميل داخلي برضا وطواعية وتلقائية وما ينطبق على الحب العاطفي ينطبق على الحب الوطني { اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما لا أملك } . 2 تجار الدين والمتطرفون الذين يستغلون الظروف النفسية والاجتماعية التي افرزها واقع النهب والتهميش في ترويج عقائدهم المضلِّلة ونشر ثقافة الكراهية والبغض في نفوس الفئات اليائسة المتذمرة ضد الدولة والوطن والمجتمع والنظام . إن ظاهرة الانحراف العقدي والتطرف الديني تخترق المجتمع المغربي بشكل رهيب فتحول ولاء الضحايا ، وهم بالآلاف ، نحو مذاهب خارجية وتنظيمات إرهابية تنشر الدمار وتشيع الموت بأبشع الطرق وأكثرها همجية ووحشية . فضحايا التطرف والاتجار بالدين فقدوا كل ولاء وحب للوطن ، وصاروا أعداء له يخططون لتدمير مؤسساته وزعزعة استقراره . 3 الحكومة الحالية بدل أن تتصدى بحزم وواقعية لأسباب اليأس والتذمر والتطرف التي تقتل كل حب للوطن واعتزاز بالانتماء إليه ، نجدها أكثر عجزا عن مواجهة المفسدين وناهبي المال العام لتحسين موارد الدولة وتنويع مصادرها . حكومة رفعت شعار محاربة الفساد والاستبداد لكنها فشلت فيه فشلا ذريعا فلجأت ، في المقابل ، إلى الإجهاز على المكتسبات السياسية والحقوق الاجتماعية لغالبية الشعب المغربي وعموم الموظفين والمأجورين . إن الحكومة ، بقراراتها المجحفة التي تمس حقوق ومكتسبات الطبقة العاملة مصدر الثروة والرأسمال اللامادي ، أو بإجراءاتها اللاشعبية التي تجهز على القدرة الشرائية لأوسع فئات المجتمع ، ستوسع من دائرة الفقر وترمي بمزيد من المواطنين ، في طواحين الفقر والبطالة والإجرام والمخدرات والتطرف والإرهاب . لقد قتل ويقتل تجار السياسة والسلطة والدين ما تبقى في المواطنين من حب للوطن ، ويزيدهم نفورا مواجهة مطالبهم بالعصي وشكاواهم بالصمم وانتظاراتهم بالتسويف فيما أرزاقهم وثروات وطنهم يستغلها من لا ينتجها وينهبها من لا يقدّرها . فالوطن أولى أن يبادر بحب مواطنيه حتى يزرع في نفوسهم الأمل والحب والاعتزاز بالانتماء إليه . إن حلم المواطنين بوطن آمن وعيش كريم ، هو الحصن الأخير الذي يحمي الوطن من الخراب الذي أتى على بلدان ما بات يعرف "بالربيع العربي" ، فلا تقتلوا فيهم أحلامهم الجميلة ، ولا تستنزفوا صبرهم ، فللصبر حدود.