منذ اعتلائه عرش أسلافه الميامين، وجلالة الملك محمد السادس، حريص على السير بخطى ثابتة، نحو تشييد مغرب جديد، وجعل خطبه السامية دروسا في الإخلاص والوطنية، ومنارات إشعاع تلهم الفكر، تلهب حماسة النزهاء والأوفياء للوطن، وتؤجج مشاعر الجماهير، للالتفاف حول توجيهاته الرشيدة وآرائه السديدة، في اتجاه استكمال البناء السياسي والمؤسسي، مواكبة التحولات العالمية، ومواصلة ترسيخ مبادئ الخيار الديمقراطي، من أجل توطيد المكاسب الاجتماعية والاقتصادية... بيد أنه يبدو كمن ينفخ في قربة مقطوعة، إذ بمجرد مرور فترة زمنية سريعة على خطابه، حتى ترتب الصحف في الرفوف، تجف الأقلام، وتنطفئ جذوة الحماس، لتظل تعليماته عالقة بدون تنفيذ وتطبيق... فبمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية، ألقى الملك نهار الجمعة: 10 أكتوبر 2014 خطابا في البرلمان بنفس الأهمية والإصرار المعهودين، وبصراحة دعا المغاربة إلى الاعتزاز بانتمائهم للوطن، باعتباره شعورا وطنيا نبيلا لا يباع ولا يشترى، لا يطلع من الأرض ولا يهبط من السماء، بل هو إحساس ينبعث من عمق الإنسان، إذا ما تمت تنشئته على حب وطنه وتقديس ترابه، بأن يتشربه مع حليب أمه، وتسهر المدرسة على تنمية إيمانه به، ويعمق المجتمع جذوره في دواخله، ويسهر المسؤولون على توفير ظروف عيشه الكريم وضمان حقوق مواطنته كاملة، ليتمكن بدوره من القيام بواجباته.. وجدير بالذكر، أن الخطب الملكية لا تنطلق من فراغ، ولا تخضع للارتجال والعشوائية، وإنما تصاغ بحكمة وتؤدة، باعتماد رؤية ثاقبة تستشرف آفاق المستقبل، تنتقي بدقة أساليبها البسيطة وتعابيرها القريبة من لغة وإدراك المواطنين، وتسطر جملة من الأهداف والغايات، تتوخى نشر الرخاء بالبلاد وإسعاد العباد. لذلك نجدها بليغة وذات إشارات قوية، تعكس بجلاء مدى شغفه بوطنه وافتخاره بمغربيته، وتفصح عما تشكل لديه من قناعات راسخة، بالاختلالات المتراكمة والممارسات الخاطئة، التي تستوجب نقدا ذاتيا وتقويما سلوكيا فوريين. فالملك رئيس الدولة وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها الدستورية، الساهر على صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، والضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة... لذا يزعجه كثيرا رؤية شعبه منقسما إلى فئتين غير متكافئتين: أقلية تنعم بالثراء الفاحش، وأغلبية مقهورة تعيش البؤس والشقاء في مستنقعات الهشاشة والفقر والتهميش والأمية، ساخطة وناقمة على وطن حوله الجشع إلى غابة موحشة، تؤول فيه الغلبة للأقوياء الفاسدين والمستبدين، الذين يستبيحون خيراته بقوة. مظاهر سلبية عديدة تزج بأبنائه في ظلمات الضياع، إلى حد كراهيته والانفصال عنه أو الارتماء في عرض البحر عبر قوارب الموت أو في أحضان المنظمات الإرهابية... إذ كيف تحلو للمرء لقمة عيش ممزوجة بالذل والقهر والظلم، أو التغني بوطن أفرغ من أبعاده الإنسانية، حيث صار التعليم تعليمين: خصوصي مثمر وناجح للأثرياء، وعمومي فاشل للفقراء ينتج البطالة. تدهور الخدمات الصحية، تغلغل الفساد، هضم الحقوق ومصادرة الآمال والأحلام، استفادة المحظوظين من اقتصاد الريع، التملص الضريبي، نهب المال العام وتهريبه، تفشي المحسوبية، هجرة الأدمغة، شيوع مختلف أصناف المخدرات وسط الشباب، تنامي الفوارق الطبقية وارتفاع أعداد العاطلين...؟ فالذي كرس هذا الواقع الأليم وحوله إلى جحيم، هو فشل الحكومات المتعاقبة في سياساتها العمومية، وزادته تعقيدا ارتباكات حكومة السيد بنكيران، بضربها القدرة الشرائية وتراجعها عن المكتسبات، إغراق البلاد في أوحال المديونية، وعجزها التام عن تبديد الاحتقان الاجتماعي والاستجابة لتطلعات الشعب، ووضع البلاد على أهبة الإقلاع الاقتصادي الناجح... فكان طبيعيا أن تتوالى انتقادات الملك للتخبط الحاصل في مباشرة الإصلاحات، وتدني الخطاب السياسي لدى الأغلبية والمعارضة. ولذلك مافتئت خطاباته ترسم خرائط طريق نموذجية، ترشد القائمين على الشأن العام إلى تصحيح مساراتهم، قصد إيجاد الخطط البديلة للنهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية... والعمل على حسن استثمار العنصر البشري كرأسمال لامادي حقيقي. ترى ما الذي أعدته المؤسسات الإدارية والمنتخبة خارج الإنجازات الملكية، لصون كرامة المواطن والارتقاء بمستوى عيشه، وجعله أكثر تمسكا بوطنيته وأشد حرصا على انتمائه لوطنه؟ أكيد ألا شيء تحقق عدا ارتفاع منسوب القلق والخوف من المستقبل الغامض، فالسياسات المنتهجة متمادية في زرع بذور اليأس والإحباط، تدمير نفسية المواطن، وسحق روح المبادرة ومعنى الطموح في أعماقه. وإذا كانت الوطنية تعني ما يكنه المواطن من إحساس قوي بانتمائه وولائه لوطنه، وأن المواطنة تفيد الصفة التي تتحدد بموجبها حقوقه وواجباته، فالوطن أبلغ من الشعارات الجوفاء، وأقوى من العبارات المتلاشية في الهواء. قد يكون هو الأرض والعرض، الهوية والقيم الإنسانية، الحاضر والمستقبل، أو مسقط الرأس الذي نشأ الإنسان في كنفه، وعاش مطمئنا داخل ربوعه وسط أهله وجيرانه، وعانق نسائمه واستمتع بمياهه وخيراته، أو السكينة والحرية، الوفاء والفداء، السعادة والهناء... وقد يكون هذه المعاني الإنسانية العظيمة كلها، لكن ما الجدوى منها في ظل ما يستشعره المواطن من ازدراء وإقصاء؟ فالاغتراب الأكثر إيلاما والأشد قسوة، ليس ما يتجرعه من مرارة من فقد وطنه بحثا عن لجوء سياسي، أو معرفة علمية، أو مورد رزق أو هروبا من حروب طاحنة... بل هو ما يحياه المرء من اضطهاد بين أهله في ربوع بلاده... صحيح أن حب الوطن، شعور فطري يستوطن القلوب، ويجسد اعتزاز الإنسان بانتمائه وولائه له، ولعل أبرز محك يكشف عن حقيقة الحب الساكن فينا، هي ردود الأفعال التلقائية في مواجهته لخطر داهم، أو تلك العواطف الجياشة التي تتدفق بعفوية، عندما يحرز أبطالنا ومنتخباتنا الرياضية انتصارات في التظاهرات الرياضية الدولية، وترتفع رايته خفاقة في العلياء. والأصح من ذلك، أن المواطن المغربي على استعداد دائم للتضحية بروحه ودمه فداء للوطن، الإخلاص في طاعته والائتمان على حياة المقيمين فيه، الإسهام في بناء حضارته والسهر على أمنه وسلامته، الغيرة على سمعته وتفادي إثارة القلاقل وإحياء الأحقاد والتفرقة...لكن ماذا هيأت له مؤسسات الدولة مقابل ذلك؟ كيف يستقيم حب الوطن وأبناؤنا يتحولون إلى قنابل مؤقتة؟ أليس من العار أن تلد نساؤنا في ممرات المستشفيات، ويموت شيوخنا أمام أبوابها لانعدام الأسرة الكافية؟ وهل من العدل في شيء أن ينام بعضنا جائعا، والبعض الآخر يبذر المال العام على طاولات القمار بأكبر ملاهي وكباريهات العواصم الغربية، وأن يساق الأبرياء إلى السجون بدل الجناة الحقيقيين ؟ من هنا تأتي أهمية تدخل الدولة، لمضاعفة الجهد وابتكار أحدث أساليب التنشئة الاجتماعية، زرع الأمل في النفوس بتنمية شاملة ومستدامة، ضامنة للعيش الكريم، سيادة العدالة الاجتماعية، تحسين الخدمات العمومية، خاصة في القطاعات الحيوية: تعليم، صحة... دعم الاستثمار وحسن استغلال مقدرات البلاد وتوزيعها بشكل منصف، فتح آفاق المستقبل أمام الأجيال في إيجاد فرص الشغل الملائمة... فلنجعل أبناءنا يحبون وطنهم بعمق بدل الكفر به.