تروج من مدة غير بعيدة, بالمغرب كما بالعديد من الدول العربية الأخرى, مجموعة مقولات واعتقادات غير دقيقة بالمرة, قد تبلغ أحيانا مستوى التهيؤات, لدى بعض الصحفيين, أو بعض النقاد الإعلاميين, وفي بعض الأحيان لدى بعض الساسة "المتنورين", أعني أولئك الذين لهم في الشأن العام بعض من المعرفة والخبرة والإلمام. هي اعتقادات لا ينحصر مداها على الرأي والاجتهاد, بل تذهب لحد القول المبالغ فيه, المحيل في العديد من جوانبه على الادعاء الصرف, الذي لا يقدم الإشكالية, بقدر ما يدفع بها إلى أتون المزايدة والقول/الحق ظاهريا, لكن المتدثر ببعض من الباطل. ثمة ثلاثة اعتقادات كبرى يروج لها هؤلاء باعتبارها يقينيات, في حين أنها لا تخرج كثيرا عن مجال الادعاء الذي يستوجب التدقيق والتمحيص والتحليل: °- الادعاء الأول ومفاده القول بأن الإعلام إنما هو "مهنة المتاعب" بامتياز, ليس فقط بحكم الجهد المطلوب لتحصيل المعلومة وتوفيرها للمتلقي, ولكن أيضا على اعتبار المجهود الضخم الذي يتطلبه العمل الإعلامي سيما في جانب التحقيق وتغطية الأحداث بعين المكان, ومخاطر التواجد بالفضاءات الجغرافية حيث تجري الأحداث, حروبا كانت أم صراعات, أم كوارث طبيعية أم مناطق المنازعات المسلحة الكبرى. هو اعتقاد قد يتفهم المرء كنهه ومضمونه بالسياق العام, لكنه أبعد من أن يكون واقع الحال بالمغرب أو بمعظم الدول العربية. والدليل على ذلك إنما غياب صحافة التحقيق من بين ظهرانينا, وانتفاء معطى التواجد بعين المكان حيث مجريات الأحداث الكبرى. إن المقصود هنا إنما القول بأن معظم الصحفيين بهذه الحالة إنما يعتمدون على قصاصات وكالات الأنباء وما يتسنى لهم من لدن هذا المصدر أو ذاك, وفي الغالب الأعم من خلال ما توفره معطيات شبكة الإنترنيت, وهكذا. عن أي متاعب نتحدث إذن في اقتصار الصحفي على تجميع الخبر من مصادر متاحة ومباحة, دونما جهد من لدنه في استقاء المعلومة من مصدرها الأصل, أو انتقال من جانبه للساحات حيث تجري الأحداث لحظة بلحظة؟ °- الادعاء الثاني وينطلق من الاعتقاد بأن الرسالة الإعلامية هي رسالة مقدسة, يضطر الصحفي لتجسيدها, إلى النبش في المضمر الخفي, وإلى تعرية الوقائع بحثا عن الحقيقة باعتبارها الهدف الأسمى لذات الرسالة. وهو ما قد يجر عليه متاعب قد تصل حد المتابعة والمقاضاة, إن هو أوغل في كشف الحقائق وتعرية المستور. الصحفي هنا لا يتدثر بالرسالة للوصول إلى الحقيقة, بل يطالب بأن تمنح له حصانة تامة عما يصدر منه حتى وإن دفع به الأمر لحد النبش في خصوصيات الأفراد وقيم الجماعات, لا بل وأيضا القدح في هذه الجهة أو تلك. يبدو الأمر بهذا الاعتقاد ولكأن الصحفي إنما يريد أن يكون ذاتا خاصة, لها حقوق خاصة, إن اعترضتها واجبات الفعل الإعلامي فلكأن ذلك استهدافا للرسالة لا للصحفي المعترض على ما صدر عنه. °- أما الادعاء الثالث فهو المرتكز على الاعتقاد, بالمغرب خصوصا, على أطروحة مفادها أنه في ظل ترهل الأحزاب, وتراجع دور النقابات, وغياب الفعل الجمعوي الهادف, فإن بعضا من الصحافة قد بات لها الحق لتعويض ذلك, عبر فتح ملفات لا يستطيع هؤلاء الفاعلون فتحها لهذا الاعتبار أو ذاك. الإعلامي هنا لا يقتصر على التطلع للعب دور لربما هو ليس من رسالته, لكنه يذهب أيضا لحد ادعائه بأنه بات حقا وحقيقة المعارضة "الجديدة" و"الصادقة" في غياب أشكال المعارضة التقليدية التي لم تعد تستهوي كثيرا من الفاعلين. العيب في الادعاءات الثلاثة لا يكمن, فيما نتصور, في تقمص بعض من المنابر الصحفية لدور الضحية والجهة المستهدفة, ولا يكمن فقط في درجة الترفع عن ثنائية الحق والواجب, بل وأيضا في مستوى انتفاخ الذات لدى بعض الصحفيين لدرجة باتت معه هذه المنابر تتطلع لتبوئ دور الخصم والحكم... وهذا لربما ما قد يكون مقتلها في القادم من أيام. * www.elyahyaoui.org