يبدو من خرجات الوزيرين الداودي وبلمختار أن النقاش المحوري في كواليس القرار التربوي بالمغرب هذه الأيام هو لغة التدريس. إذ تعد إحدى أهم الإشكاليات الأفقية الكبرى في منظومتنا التربوية، ومن ابرز الاختلالات التي وقفت عندها جميع البرامج الإصلاحية، خاصة الميثاق الوطني للتربية والتكوين، دون القدرة على الحسم في قضاياها، بما في ذلك الضعف الكبير في مجال الكفايات اللغوية لدى المتعلمين المغاربة. لكن الإشكال الذي بدا حاليا بصورة أكثر فظاظة يثبت أمرين اساسيين: انتقال الشأن اللغوي من موقع العرض إلى صلب النقاش التربوي، وغياب رؤية لغوية مندمجة لدى الوزراء خاصة وزيري التربية الوطنية والتعليم العالي مما جعل القضية خاضعة لأهواء شخصية وأجندات خاصة وليس لدراسات علمية يشرف عليها المتخصصون، واستغلال الأرقام الكارثية في التقارير التقييمية لفرض أجندات خاصة على المجتمع المغربي. بأي لغة ندرس؟ وما موقع اللغة الرسمية في التربية والتعليم؟ نتصور أن اختيار لغة التدريس ليس اختيارا عفويا أو نابعا من قناعة ذاتية لمسؤول كيفما كانت مؤهلاته وتصوراته، بل تحكمه جملة من المقتضيات المعرفية والمنهجية: اختيارُ لغة التعليم هو جزء من تصور شامل للتنمية بمختلف جوانبها القيمية والمصلحية. لذا فمن الناس من يتبنى النموذج الكولونيالي في التنمية تصورا وتنزيلا. وهذا النموذج الإدراكي أسسه الاستعمار لتمدين الأهالي في المستعمرات القديمة/ الجديدة، القائم على نشر المدارس لتعليم العلوم الحديثة بواسطة لغاتها الأصلية مما رسَّخ في أذهان الكثير أنَّ المجتمعات المتمدِّنة تطوَّرت في شتى المجالات بفضل علومها الحديثة، ويترتَّب عنه كونُ المجتمعاتِ المتخلِّفةِ لا تسيرُ في طريق النموِّ ما لم يتعلَّمْ أبناؤُها علومَ العصر بواسطة اللغات الحية. فالأمر لا يتعلق بانفتاح على لغات العصر وعلومه وإنما احتذاء لنموذج معرفي وتنموي راسخ حتى في أذهان بعض المنتمين للقطب الهوياتي قائم على فهم خاص للتنمية. وفي هذا الإطار يندرج قرار وزير التعليم العالي لحسن الداودي، القاضي بإلزامية إتقان اللغة الإنجليزية في بعض التخصصات العلمية على وجه التحديد، والذي كان من المفروض أن يسائل لغة التدريس بدل البحث في حلول قطاعية، مثبتا الرؤية المزاجية التي تكررت عنده في أكثر من مناسبة والقائمة على احتقار لغة الهوية وقصورها عن استيعاب مستحدثات الواقع التنموي. من أهم أهداف التعليم "التنشئةُ على نفس القيم دفعاً للتناشز الفئوي المفضي إلى تفكيك الجماعة، وضبطاً للإيقاع الفردي الضامن لتماسك مكونات المجتمع. وعلى قدر نجاح النظام التربوي في التنشئة على نفس القيم الاجتماعية يضعف التناشز الطائفي المرخِّصِ للاستقواء بالأجنبي على الوطني، ....ولا ينجح النظامُ التربوي في تَوَخِّيهِ للتماسك الاجتماعي إذا نشَّأَ على قيم حضارية متدافعة، أو توسَّل في التدريس بلغاتٍ متنافسة على الانفراد بالاستعمال في نفس المجال". هذا من حيث المبدأ. لكن الواقع أن التعليم المغربي يعيش حالة من التشظي التربوي من حيث المناهج والمضامين واللغات والجهات. وقد أتت "مهزلة" الباكالوريا الفرنسية المسماة زورا باكالوريا دولية لتزيد في التشتيت، من حيث سرعة التنزيل وضبابية المشروع مصاحبة بهجمة فرانكفونية غير مسبوقة على فضاءات التكوين من خلال عروض الشراكة والتأطير المغرية تثبت أن الأمر يتعلق بهجمة حقيقية ليس فيها الوزير إلا الأداة وهذا يبرر نسبته الدائمة لمشاريعه الكارثية للحكومة. وإلا فلم الإصرار على فرنسة التعليم مع بهارات لغوية للغات أخرى في مناطق قليلة؟ وإذا كانت السمة المعطاة لهذه الباكالوريا هو الدولية فلم تستبعد منها اللغة العربية مع العلم أن العديد من الدول قد شرعت في افتتاح باكالوريا دولية باللغة العربية كان آخرها في جمهورية مصر تطبق مناهج البكالوريا الدولية باللغة العربية مع ترسيخ الانتماء والهوية؟. في دراسة هامة عن لغات التدريس اشرف عليه مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة ونشرت ضمن إصداراته خلصت البيانات الإحصائية إلى مجموعة من النتائج التي نحب عرض بعضها لأن الدراسة لم تنل حظها من المتابعة العلمية والإعلامية: ليست هناك دولة متقدمة واحدة تدرس بلغة أجنبية. فالدول الأوروبية والأمريكية وكذلك المجموعة الأسيوية التي تستخدم فقط اللغات الوطنية الأكثر انتشارا هي الدول المتقدمة. أما الدول التي تدرس بلغة المستعمر أو يوجد بها تعليم مزدوج فواقعها الاقتصادي يشهد أنها ليست من الدول المتقدمة. وهذا يبين بالأرقام أن التدريس باللغة الوطنية الأكثر استعمالا شرط ضروري لأي تنمية. كلما زادت نسبة المتكلمين باللغة الأكثر استعمالا في بلد ما كلما زاد الدخل الفردي الخام لهذا البلد. وجود لغة جامعة وموحدة يساهم في رفع مستوى دخل أفراد أي مجتمع. وهذا لن يتأتى بدون أن تكون هذه اللغة هي لغة التدريس كما هو الشأن في الدول المتقدمة. التناسب الواضح بين نسب المتكلمين باللغة الأكثر استعمالا وبين نسب الأمية ، أي كلما ارتفعت نسبة المتكلمين باللغة الأكثر استعمالا في بلد ما كلما قلة نسبة الأمية بهذا البلد. لكن إهمال مثل هذه الدراسات وعدم العناية بها والانطلاق في مقاربة الشأن اللغوي من آراء انطباعية سواء بالنسبة للعربية أو الأمازيغية تثبت أن الشأن التربوي يعاني أول ما يعانيه من نوعية المسؤولين الذين يختارون لتدبيره سواء أتوا بطريقة الاختيار الحزبي أو فرضوا بمنطق التحكم. فحل الإشكال اللغوي تربويا لا يتم من خلال حلول قطاعية أو مذكرات وزارية أو قرارات فجائية أو أهواء شخصية ترهن مصير المغاربة ومستقبلهم وإنما من خلال حل شمولي يستحضر مقتضيات النص الدستوري وابعاد التخطيط اللغوي ومرتكزاته الواجب استحضارها. كما أن بلورة سياسية لغوية يساهم فيها إلى جانب اللغويين، علماء التربية وعلماء النفس وعلماء الاجتماع والبيولوجيين على أساس أن اللغة هي مسؤولية النخبة، والتعجيل بالحسم في الاستراتيجية اللغوية المندمجة هو الكفيل بحل الإشكالات المرتبطة بلغات التدريس، وإلا فالمقابل هو مزيد من الفوضى والتجاذب وإعادة إنتاج التخلف. وللحديث بقية.