يكفي أن تُدثر الأصباغ، وريشات الرسامين وألوانهم جدران مدينة، حتى تُخرجها عن نطاق المألوف، وتنأى بها عن صخب شوراع الحواضر الحديثة ونمطيتها، وتصنع منها مدينةً أصيلةً تتحيز لأهل الفن ورواده، وذلك حال مدينة أصيلة. فقد أضفت اللوحات الجدارية التي تتزين بها شوراع أصيلة، على هذه المدينة التاريخية رونقا خاصة، جعلت الرسم حرفة أهلها، وهواية يتقاطر فنانون عالميون على هذه الحاضرة المغربية لممارستها، فالبيوت أضحت للراسمين أوراقا، والشوارع صارت تشبه بزهو أوانها متاهات معرض تشيكيلي مفتوح أمام العابرين، ما جعل أصيلة نفسها تصير"لوحة رسم كبيرة"، تسمح لكل المُبدعين الذين يزورونها بترك آثارهم على جدرانها. المدينة التي يعود تاريخ بنائها للعام 1500 قبل الميلاد، تُشرع ساحاتها ودروبها الضيقة أمام إبداعات الرسامين الذين يشد بعضهم الرحال من أقاصي البلدان ليرسموا على جدرانها، مُحتفين بشساعة الفضاء ورحابته، وسعة أفق يمنحها لهم البحر، الذي تستقر في كنفه هذه المدينة المُطلة على الأطلسي، فتصير حاضرة أقرب إلى سجية الطبيعة الأولى براءتها، بعيدة عن صخب المدن الحديثة وتكلُفها. لا يحتاج الرسام في مدينة أصيلة إلى عُزلة مرسمه، ولا إلى خلوة تجعله في مأمن من عيون المتطفلين إلى أن يُكمل لوحته ويفاجئ بها جمهوره، كما جرت بذلك العادة منذ قرون، بل إن رسامي الجدرايات في مدينة أصيلة، يتقاسمون تفاصيل لوحاتهم، ويتأملونها تتخلق على مهل على جدران الحي أو البيت أو الزقاق على مرأى من الجميع، فتصير اللوحة مُشتركا إبداعيا تفتقت به قريحة الرسام، وتابعه بعناية جمهور واسع من زوار المدينة وأهلها. فبعد أن تكتمل تشكيلية اللوحة وتستقر ألوانها وشخوصها على الجدران، يتذكر العابرون متى مروا من أمامها، تفاصيلها الأولى وخطوط المُتعرجة المُتوجسة التي خطها الرسام وهو يتأمل بأناة لوحته، قبل أن تتشكل في ذهنه أجزاؤها كاملة، وينطلق بجسارة وإلهام مُبدع في رسمها على جدران الحي. وفي عُرف سكان أصيلة، ليست صنوف الفن المُختلفة ترفاً يميل إليها كل شغوف أو مولع بجمالياتها فحسب، بل إن الفن يدخل في صميم حياتهم، ويؤثث مخيالهم الجمعي ويُكسبهم انتماء "أصيلاً" لأصيلة، فالجدران الخارجية لبيوت المدينة القديمة مُشرعة في وجه الرسامين من أبناء المدينة نفسها، الذين يبادرون إلى تحويل الواجهات الخارجية لبيوتهم للوحات فنية مُعبرة، فيما أزقة أصيلة تضج جنباتها بالخطاطين ورسامي البورتريهات الذين يكسبون قوتهم مما تصنعه أناملهم من إبداعات. الدور والأزقة في هذه المدينة أقيمت بنفس أندلسي موريسكي طافح، يحيل على تفاصيل حضارة شبه الجزيرة الإيبرية، وإن أكسبها البرتغاليون الذين غزوا المدينة وحكموها منذ سنة 1471م طابعا تحصينيا، فتسامقت أسوارها، وعلت أبراجها العسكرية، وطوقت المدينة نفسها بالبحر ومخازن البارود، خشية من محتل غاشم، دون أن يمس ذلك بالإحساس الفني المُرهف، التي تتمتع به هذه المدينة، وتطبعه "أثرا طيبا" في نفوس من يزورونها. يوقع كل فنان لوحته، ليضاف اسمه إلى سجل المُبدعين الذين عبروا هذه المدينة وتركوا فيها بصمتهم، فهذا المعرض التشكيلي المفتوح في الهواء الطلق، يتجدد باستمرار، لتتجدد معه روح المدينة ورونقها، بعد أن يعيش "الأصيليون" سنة كاملة مع رسوم تزين أحيائهم، يألفون التمعن في تفاصيلها كل صباح، يمنحون أيضا في عام آخر لمُبدع آخر قادم من بلاد بعيدة، فسحة للرسم على ذات الجدار تبعا لتصوره الخاص ولإحساسه بجماليات هذه المدينة، لتتجدد روح أصيلة بشكل دائم وتنزع عنها ثوب جدارياتها القديمة، متألقة في رسوم جداريات أخرى لرسامين عالميين مُبدعين، تبعث فيها الحياة من جديد. * وكالة انباء الأناضول