1 . عندما عدت لمطالعة كتاب "حوارات من أجل المستقبل" لطه عبد الرحمن، استوقفني سؤال طُرح عليه مفاده؛ هل يمكن اعتبار كتابه "العمل الديني وتجديد العقل" محاولة لسيرة ذاتية في علاقة بالتصوف؟ فكان رده أن الكتاب بالفعل له علاقة وطيدة بالتجربة الصوفية، لكنه ليس سيرة ذاتية، إذ "لم أذكر فيه من سيرتي إلا ما جاء في ست صفحات وردت في مطلع الطبعة الأولى لهذا الكتاب" على حدِّ قوله، ولكني تذكرت أن النسخة التي أملك، وهي الطبعة الثانية للكتاب، لا توجد فيها هذه "الصفحات الست" ! فلماذا حذفها الدكتور طه إذن؟ عدت إلى الطبعة الأولى، والتي صدرت سنة 1989، فوجدت ضالتي، وقبلها كلمة عبارة عن "إهداء" جميل موجه إلى من حَلاَّهُ ب "العارف الرباني والعالم الصمداني والشيخ المربي"، وقد افتتحها بقوله:" أتراني أُوَفّي آداب الإهداء حقها إن أنا قدمت هذا العمل العلمي إلى من لو أُهديَ "ما طلعت عليه الشمس" لم يكن عوضا عما تداركني من الهداية بصحبته، ونالني من الخير بإرشاده: فلقد أخرجني من البعد إلى القرب، ومن الفصل إلى الوصل، بتجديد إيماني وتعليق قلبي بالواحد الأحد، الله الصمد". ويعترف بأنه المربي الذي أحسن تأديبه، وسدد توجيهه، والأستاذ الذي علمه الأخذ من المناهج أسلمها، ومن المعارف أنفعها، ومن المقاصد أشرفها. ويخبرنا بأن قصده الأول والأخير من هذا الإهداء أن يحظى اسمه في هذا الكتاب بالاقتران باسم "سيدي وأستاذي حمزة بن العباس القادري". يلي الإهداء مقدمة يناقش فيها كون ما يسميه ب"اليقظة الدينية" التي يعرفها العالم الإسلامي تعاني من أمرين: "الغُلوّ في الاختلاف المذهبي والخُلوّ من السند الفكري"، وهي باقية لم تحذف من الطبعة الثانية، أما تلك "الصفحات الست" فتبدأ من الصفحة 23 إلى الصفحة 28، وقد عنونها ب" بين يدي التجربة الدينية الحية"، وقد افتتحها بالقول المأثور" طلبنا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون لله". 2 . في البداية يخبرنا الدكتور طه بأنه نشأ في بيت علم وعمل تحت رعاية أب محبّ للقرآن الكريم: تحفيظا وتدريسا وتطبيقا، لكنه سيصطدم بواقع التعليم العصري الذي يتلقاه في المدرسة، مما جعله يعاني، ومن ثم ينطوي على نفسه، لأنه لم يجد في محيطه المدرسي الصغير " من يشاركه الإيمان، على حلاوته وعظمة من جاد به". الغريب أن هذا الطفل عندما انتقل ليواصل دراسته الثانوية كان ما يزال حبه متوقدا في قرارة نفسه على "أمل أن يجد من يقاسمه هذا الحب الذي تمتلئ به جوانحه وجوارحه"، لكنه صُدم مرة أخرى عندما أُخبر بما مفاده أن الإيمان وحلاوته أمران لا يجتمعان في الوقت الحالي، "فاشتدت عزلته الإيمانية". ورغم ذلك يستمر في "احتضان حبه حتى يدخل الجامعة والأمل لازال يراوده أن يجد في رحابها من يشغله الإيمان كما شغله، فيؤاخيه أو يصاحبه"، لكنه، وللمرة الثالثة، يصاب بخيبة وصدمة، فقرر ربما كرد فعل الانكباب على الدّرس والتحصيل والعين هذه المرة على الرغبة في مقارعة "من يدَّعي المشروعية لغير الممارسة العقدية"، دون أن ينسى تهمُّمَه بلقاء "من يشاطره حبه". بعدها يخبرنا الدكتور طه أن المنعطف الكبير في حياته سيقع مباشرة بعد عودته من فرنسا إلى المغرب لمزاولة التدريس، حيث "قيَّض الله له من أخذه إلى من تصاحبوا على أمور البر والتقوى ... فتجلى فيهم حب الإيمان ووجدوا حلاوته، واكتست وجوههم طلاوته". وبفرح كبير، شأنه شأن كل من وجد ضالته، "أخذ شعوره بالعزلة في التلاشي، وأخذ ينسى وحشته"، لكن الشوق إلى "الشيخ" هاج في نفسه، ولم يسكن "حتى كان اللقاء بفاس الطيبة". 3 . يسأله محاوره في كتاب "حوارات من أجل المستقبل"؛ كيف عشتم هذه التجربة الصوفية ؟ هل كان ذلك على الكيفية التي عاشها الغزالي ؟ وكعادته دائما، يريد الدكتور طه أن يتميز في كل شيء؛ فهو يخبرنا أن التجربة التي عاشها الغزالي لا يجمعه بها إلا خوض غمارها؛ فلم يدخل فيها فارّا ولا شاكّا كما وقع للغزالي، بل أقبل عليها اختيارا. هذا الكلام استوحاه الدكتور طه من دون شك من النقد اللاّذع الذي وجهه ابن سبعين للغزالي في كتابه "بُدُّ العارف" [ص 144] عندما قال في نص طويل:" وأما الغزالي ف [...] حيْرة تقطِّع الأكباد؛ مرة صوفي، وأخرى فيلسوف، وثالثة أشعري، ورابعة فقيه، وخامسة محير، وإدراكه في العلوم القديمة أضعف من خيط العنكبوت، وفي التصوف كذلك، لأنه دخل الطريق بالاضطرار [...] وينبغي أن يُعذرَ ويُشكرَ لكونه من علماء الإسلام على اعتقاد الجمهور، ولكونه عظَّم التصوف ". وهذا لا يعني أن طه يُساير ابن سبعين في حَطِّهِ على الغزالي، كلا، بل إنه ينتصر له في الخصومة الفكرية التي ثارت بينه وبين الفلاسفة، وعلى رأسهم ابن رشد، الذي يعتبره تلميذا لأرسطو ومقلدا له، أما الغزالي فيحسبه إن فهمتُ عن طه "أعظم عقلية أنتجتها الثقافة العربية الإسلامية".كل ما في الأمر أنه يميز نفسه عن الغزالي في هذا الأمر، ما دام يدخل كلّه في إطار"التجربة". وفي هذا السياق يوضح بأن الغزالي كان فراره من اثنين:" فرار من الجاه الذي كان ثمنه المكوث في أحضان الدسائس والمؤامرات والتصارع على السلطة. وفرار من الشك الذي يكون قد بقي في نفسه بسبب اشتغاله بالفلسفة مدة. بينما كان إقبالي على التصوف لسببين مخالفين تماما، أولهما: أردت أن أقوّي صلتي بالله، حبا فيه لذاته، لا فرارا من غيره. والسبب الثاني هو أن أتَحَقَّقَ من طبيعة المعاني التي هي فوق طور العقل الفلسفي؛ هل هي غير عقلية كليا أم أنها عقلية بوجه ما؟" 4 . عندما التقى "الدكتورُ" "الشيخَ" أسْلَمَهُ "نفسَه من أجل تجديد إيمانه وتجديد تربيته"، وما كان من والده، حين علم الخبر، إلا أن أسَرَّ إليه فرحا:" يا بني ! اِعلم أني ما ربَّيت فيك إلا البنْيَةَ، أما الروح، فالذي يتولى تربيتها هو هذا العارف الذي التَزمْتَ بصحبته". منذ صغره وضع طه لنفسه "أسطورةً شخصيّةً" وتهمَّم بها و"انتبه جيدا للإشارات" حتى وجد "كنزه". إنه بلغة الصوفية "المَصْحوبُ". يذكرني هذا بقول "باولو كويهلو" على لسان إحدى شخصيات روايته "الخيميائي": "عندما تريد فعلا شيئا ما، يَتَواطَأُ الكونُ كلُّه ليسمح لك بتحقيق رغبتك". 5 . يخبرنا طه أنه بلقائه الشيخ وُلدَ ولادَةً جديدة، فدخل "تجربة ليس فوقها تجربة"، ولكنه للأسف لا يفشي أيًّا من "أسرار" هذه التجربة، عملا بنصيحة الغزالي القائلة: "فكان ما كان مما لست أذكره، فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر". الغريب أنه "مضى قدما في تجربته غير مُتَهَيِّبٍ ولا متردِّد، ولا عابئ بما يُقال" خاصة وأن هذه الطريق حسب ما يقال لا توافق العقل ولا تناسب المنطق وتجرُّ إلى الخمول، وهو الذي قطعا أشواطا في الاشتغال بالعقليات والمنطقيات. 6 . بعدها يحدثنا طه في "صفحاته الست" عن ما يمكن أن نسميه ب"الشروط" التي ينبغي أن تتوفر في "المصحوب"، على اعتبار أن هذا "المقامَ" خطيرٌ وصعبٌ وشديدُ التعقيد، فيحدّدها إجمالا في ثلاثة شروط: 1. العلم 2. الحكمة 3. التَّسديد والتّأييد. وهو يخبرنا بأنه ظَفَرَ بهذا الأستاذ: علما وسدادا وسَنَدا، "فكيف إذن لا يُقْبِلُ بالكلية على الله، ولا يُعَظِّمُ طريق السلوك إليه !". ثم يؤكد أنه ماض في تجربته بعزيمة لا تُحَلّ، بل إنه " لا يرى لوجوده معنًى إلا بالبقاء على مواصلتها حتى يلقى الله". 7 . دخول طه "الطّريق" جعله يتحقَّق من طبيعة المعاني التي هي فوق طور العقل الفلسفي؛ هل هي غير عقلية كليا أم أنها عقلية بوجه ما؟"؛ فعندما استخلص في "حوارات من أجل المستقبل" أن "التجربة الروحية لا تتعارض أبدا مع المعرفة العقلية، بل إنها قد تكون سببا من أسباب إثراء هذه المعرفة والتغلغل فيها"، تفاجأ محاورُه كثيرا وسأله: "كيف يمكن ذلك، والحال أن التجربةَ الروحية تجربةٌ نحياها بكياننا، في حين أن المعرفةَ العقلية شيءٌ نحصله بواسطة النظر والفكر؟ ". لكنه بطريقة الفلاسفة الكبار وضح له الأمر قائلا: " صحيحٌ أن التجربةَ الروحية لا تمدُّك بخصائصَ موضوعيّةٍ للأشياء، ولا بآليات إجرائية، ولا بقواعدَ مقرّرةٍ، ولا بقوانين ثابتة كما تمدُّك بها ممارسة عقلك النظري قبل دخولك في هذه التجربة؛ ولكنها تمدك بشيء آخر لا يقل فائدة ولا تأثيرا عما يمدك به النظر، وهذا الشيء هو بالذات مجموعة من القيم والمقاصد والمعاني المستمدة من الممارسة العملية، ومتى تَزَوَّدْتَ بهذه القيم الروحية، انفتحت لك، في هذه الخصائص والآليات والقواعد والقوانين الموضوعية التي يمدك بها النظر، إمكانات مختلفة في توظيفها وتوجيهها وإعادة تشكيلها وترتيبها، إمكانات لا تنفتح لك أبدا بدون هذه القيم، ولا تتفاوت العقول فيما بينها إلا بتفاوت نصيبها من هذه الإمكانات الاستثمارية للأشياء، وعلى هذا، فلا بد أن يحظى عقلك من التوسع والتعمق على قدر زادك من هذه القيم، أي على قدر تغلغلك في التجربة الروحية".