بين واقع مأزوم وأفق مشؤوم إذا كانت غالبية دول المعمور قد قامت،بصفة خاصة، بعيد انهيار جدار برلين في نونبر 1989 بمراجعة سياساتها الاقتصادية ودخلت في سياسة الانفتاح على الأسواق وفي تكتلات اقتصادية جهوية وفي اتفاقات تبادل حر لتحسين مردوديتها وتطوير قدراتها الوطنية بما يتماشى مع النظام الاقتصادي الدولي الجديد، فإن المتتبع للشأن الجزائري يلاحظ بأن اقتصاد هذا البلد لا زال يتعثر في مسيرته لطرق باب المنظمة العالمية للتجارة سعيا للانضمام إليها. وما حذا بي إلى تناول هذا الموضوع هو استحضاري للذاكرة التاريخية حينما اتفق القادة السياسيون لكل من حزب الاستقلال و جبهة التحرير الوطنية الجزائرية و حزب الدستور التونسي الجديد في لقاء طنجة في 30 أبريل 1958 على إعلان بإقامة اتحاد مغاربي يشكل قوة ضاربة في مواجهة اتحادات جهوية أخرى بدأت تعرف النور كالاتحاد ألأوروبي وأيضا القرار التاريخي لقادة كل من المغرب وتونس والجزائر وليبيا وموريطانيا الذي صدر في مراكش في 17 فبراير 1989 والقاضي بإنشاء الاتحاد المغاربي. وللنظام الجزائري القائم حاليا ضلع أساسي في عرقلة هذه المسيرة التريخية والتنموية. فبالإضافة إلى المشكل السياسي المفتعل من طرفه إزاء قضية المغرب الوطنية والذي عاق كل تقارب جهوي، نجد أن الاقتصاد الجزائري لا يوفر الشروط المثلى لتحقيق تكامل مغاربي بالمعنى الحقيقي و لا يستجيب لمعايير التجارة العالمية لاتباعه سياسة اقتصادية تتخذ من اقتصاد الريع واحتكار الدولة خيارا لها. ولهذا السبب، فإن المفاوضات التي تجريها الجزائر مع المنظمة العالمية للتجارة لا زالت في الباب المسدود منذ يونيو 1989. فإذا كانت هذه الأخيرة قد سمحت ب 160 دولة للانضمام إليها كان آخرها دولة اليمن، فما الذي يمنع الجزائر التي تتوفر على ثروة هائلة من النفط والغاز وعلى احتياطات مالية تفوق 300 مليار دولار، من ولوج بوابة المنظمة العالمية للتجارة، في الوقت الذي انضمت إليها غالبية الدول النامية بما فيها الدول الأقل نموا . إن الغرض المتوخى من هذه الورقة ليس منه التجني في تأخير ملف عضوية الجزائر لغاية الآن في المنظمة العالمية للتجارة، بل ما يراد بها هو الاستئناس بشهادة جهات دولية محايدة عن مدى رتابة الاقتصاد الجزائري وتقوقعه وتخلفه وعدم قدرته على مواكبة الاقتصاد العالمي. فهذه المنظمة تشترط في عملية الانضمام إليها قبول كل دولة بلائحة الالتزامات الخاصة بولوج السلع والخدمات المالية لسوقها الداخلي (liste des engagements spécifiques liés à l'Accès aux marchés des marchandises et services) عملا بالمادة 12 من اتفاق "الغات". كما ترتبط هذه اللائحة بضرورة قيام الدولة العضو بتحرير تجارتها من جميع القيود وتخفيض التعريفة الجمركية إلى الحد المتفق عليه في إطار المنظمة وإزالة العوائق التجارية كالدعم والاحتكار، إضافة إلى إدخال تغييرات على ترسانتها القانونية لتمكينها من تنفيذ لائحة الالتزامات الخاصة. وطبعا، فإن فلسفة المنظمة العالمية للتجارة بصفة عامة، هي: 1 تحرير التجارة العالمية لرفع مستوى المعيشة للدول الأعضاء في المنظمة؛ 2 إنعاش التبادل التجاري والتشجيع على تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة(Investissements Etrangers directs) لخلق مزيد من فرص العمل ورفع مستوى الدخل القومي للأعضاء؛ 3 التشجيع على إبرام اتفاقيات تبادل حر بين الدول الأعضاء للإسراع في حركة تحرير التجارة العالمية، وذلك طبقا للمادة 24 من اتفاقية "الغات". وإذا كان الأمر كذلك، فإن مراوحة الملف الجزائري مكانه من دون الحسم في طلب الانضمام لما يزيد عن 27 سنة، يؤكد حقيقة وهي أن النظام الاقتصادي الجزائري لا زال لم يستوف بعد الشروط المطلوبة التي تدعو إليها المنظمة من خلال اتباع سياسة اقتصادية منفتحة على العالم الخارجي. وما يجري في الجزائر هو العكس تماما بسبب اختيارات غير ديمقراطية تتحكم في رقاب الشعب الجزائري وترهن قوته اليومي بمصالح الفئة العسكرية التي تحكمه. وهي عقلية لا تقبل أن تتيح المجال لا للحرية ولا للمنافسة الاقتصادية المشروعة، بل هاجسها الرئيسي هو الاستمرار في التحكم في السوق والإبقاء على احتكاره وتسخيره لمآربها الضيقة. وبالفعل، فقد حرصت الفئة العسكرية على أن تظل تركيبة الاقتصاد الجزائري تركيبة تقليدية ومنغلقة تتجلى فيما يلي: 1 الاقتصاد الجزائري يرتكز على قطاع واحد ووحيد وهو قطاع البترول والغاز ألطبيعي حيث يشكل المورد ألأساسي للميزانية العامة للبلاد، ولا يترك هذا القطاع أي مجال للتوسع في المنظومة الإنتاجية، إذ يكفي الإشارة إلى بعض المعطيات والأرقام التي لها دلالات احتكارية . فالمحروقات تساهم بنسبة 40 % في الناتج الوطني، وبنسبة 60 % في مداخيل الميزانية،وبنسبة 95 % في قطاع الصادرات؛ 2 الاقتصاد الجزائري اقتصاد قائم على الاحتكار: ذلك أن فئة الجنرالات لا زالت تتحكم في دواليب الدولة سياسيا واقتصاديا، ولا تريد أن تصبح السوق الجزائرية سوقا ليبيرالية خشية أن تواجه تلك الفئة منافسة شركات أجنبية ذات جودة عالية من شأنها أن تهدد مصالحها الخاصة؛ 3 غياب المنافسة المشروعة في تسويق المنتجات وإبقائها حكرا على المنتوج المحلي يجعل المستهلك الجزائري عرضة لغلاء المعيشة وضحية للتضخم وارتفاع الأسعار وضعف المنتوج؛ 4 انعدام وجود آليات ومؤسسات للرقابة من قبيل جمعيات حماية المستهلك الجزائري سواء على مستوى جودة الانتاج أو مراقبة الأسعار: فهذه الآليات أو المؤسسات تكاد أن تكون منعدمة في مختلف الأسواق المحلية، وما توفر منها يعد عديم الفاعلية. فهناك العديد من البضائع والسلع لا تحمل إشارات أو علامات الجودة من قبيل تاريخ وانتهاء الصلاحية أوفي حالة وجودها فهي تواريخ غالبا ما تكون مزورة. و كمثال عن ذلك المشروبات التي يفترض فيها أنها عصير فواكه أصلية لا تعدو أن تكون سوى مياه مخلوطة بالسكر وبملون مع مياه ليست معدنية. نفس الحالة تم رصدها في مجال قطع غيار السيارات حيث أن معظمها نسخ وتباع على أساس أنها أصلية؛ 5 انتشار ظاهرة الفساد والرشوة في القطاع العمومي وانعدام الحكامة الجيدة وخاصة في كيفية تدبير الموارد المالية. والمفارقة، في هذا الصدد، أن حجم العائدات التي تجنيها الجزائر من صادراتها من قطاعي النفط والغاز والتي جعلت منها أول دولة إفريقية من حيث الاحتياطي النقدي وسابع دولة عالميا لا تصرف منها كنفقات عامة سوى 10 %، بينما البقية منها تحول إلى حسابات سرية في الخزائن الخاصة المودعة في سويسرا وفرنسا وإنجلترا للفئة العسكرية الحاكمة. 6 النظام البنكي والضريبي و الجمركي أصبح متجاوزا في الجزائر ويخضع لقوانين داخلية لا تساير التطورات الدولية في هذا المجال. وبسبب ذلك، دعت منظمة العالمية للتجارة الجزائر إلى إعادة النظر في نظامها المصرفي و الجمركي، من بين إصلاحات أخرى، حتى يتسنى لها استكمال دراسة ملف انضمامها الذي بقي معلقا لما يزيد عن 27 سنة. ومن بين ما دعت إليه هذه المنظمة كذلك هو نهج سياسة الخوصصة لوضع حد لسياسة الاحتكار وهيمنة الدولة على المنشآت الاقتصادية؛ 7- تتميز البنيات التحتية المرتبطة بقطاع النقل في الجزائر بالهشاشة ولا ترقى إلى مستوى تلبية حاجيات البلاد. فانحصارها في الشمال على امتداد البحر الأبيض المتوسط، يجعل بقية المحافظات في خصاص كبير يحول دون تحقيق تنمية اقتصادية جهوية . فهناك تباينات صارخة وعميقة في معدلات التنمية بين مختلف المحافظات والأقاليم بسبب تخلف واهتراء الشبكات الطرقية. وهي المسألة التي يعيرها المستثمرون الأجانب كل الأهمية قبل المجازفة برؤوس أموالهم؛ 8- رداءة الأسطول الجوي وبنياته التحتية: ولعل في الحوادث التي عرفتها الخطوط الجوية الجزائرية في الأسابيع الأخيرة خير دليل على تدني مستوى هذا القطاع وهو ما يستوجب تطويرا وتحسينا لخدماته؛ 9- تراجع مردودية القطاع الفلاحي منذ بداية الستينيات من القرن الماضي و ضعف بنياته بالرغم من مخططات الإصلاحات الوطنية التي وضعتها الجزائر. وعلى خلفية كل ما تقدم، يبدو أن الجزائر كدولة وكنظام شمولي ليس له من الأهلية ما يكفي كي يندمج في المؤسسات الدولية ذات الطابع المالي والاقتصادي والتجاري. فباستثناء عضويتها في منظمة "الأوبيك"،وهي ناد للدول المنتجة للبترول و البنك الدولي و صندوق النقد الدولي الذين لا يضعان أية شروط للإنضمام إليهما، تظل الجزائر غائبة تماما عن المجتمع الدولي في محافله الاقتصادية بسبب بنياتها السوسيواقتصادية وإدارتها المتخلفة ومصارفها وأبناكها التي لم تستطع مسايرة تقنيات العولمة الحديثة. وإذ كان الأمر كذلك، فإن هذه الوضعية تدفعنا إلى التساؤل عن كيفية التعاون في إطار الاتحاد المغاربي في الوقت الذي تظل فيه دولة الجزائر منغلقة على نفسها بأنظمتها التقليدية في جميع المجالات وغير معتادة على تقنيات وآليات حديثة للتعاون الإقليمي والدولي. وعلى خلاف ذلك، فالمغرب وتونس يتمتعان بتجربة وباع طويل في الانفتاح على الاقتصاد العالمي كأعضاء مؤسسين للمنظمة العالمية للتجارة منذ 1986 وأبرما اتفاقيات للشراكة وللتبادل الحر مع عدة دول. كما أن موريطانيا تعتبر عضوا فاعلا منذ عدة عقود في إطار المنظمة العالمية للتجارة وكذلك مع الاتحاد الأوروبي. وهذه التجارب المتراكمة جعلت من هذه الدول شركاء فاعلين وذوي مصداقية على المستوى الدولي. غير أن الجزائر، للأسف الشديد، تفتقد إلى مثل هذه التجارب بفعل هيمنة فئة عسكرية حاكمة لا تريد سوى خدمة أجندتها ومصالحها الخاصة. ذلك أن أي تحول ليبرالي حسب قناعاتها يطال المنظومة الاقتصادية الجزائرية من شأنه أن يحرمها من السيطرة على الوضع في البلاد، وبالتالي يؤدي إلى فقدانها للشرعية السياسية التي تستمدها من قوتها الاقتصادية ذات الطابع الاحتكاري. وهذا التوجه هو ما أكده وزير التجارة الجزائري السيد عمارة بنويونس الذي بعدما وضع كأولوية له في مهامه انضمام الجزائر إلى المنظمة العالمية للتجارة سرعان ما تراجع في 02/06/2014 عن ذلك ليصرح بأن بلاده بصدد إقلاع اقتصادي وإعادة تصنيع، و ينبغي إذن حماية المنتوج المحلي لعدة سنوات أخرى وهو التصريح الذي أقره مجلس الوزراء الجزائري بعد ذلك. وفي ظل هذه الوضعية الاقتصادية الشاذة، ومع استمرار العقلية المنغلقة للفئة الحاكمة في الجزائر، نخلص إلى نتيجة و هي أنه لا يمكن ترجمة اتحاد مغاربي على أرض الواقع يتوفر على قوانين موحدة و معايير تجارية تساير المستجدات الدولية، و بالتالي يبقى من الاستحالة بمكان الاستبشار خيرا بتحقيق تكامل اقتصادي طالما علقت شعوب المنطقة آمالها عليه. [email protected]