كما يقال بالعامية المغربية "البس قدك ايواتيك "، فكيفما كانت الأحوال ومن أية منظور أو زاوية، في جدال غير مباشر وغير متوازن لا ثقافيا ولا علميا وحتى إيديولوجيا، فبالرغم من كون ضيف حلقة برنامج Mais encore كان واقعيا من خلال المنهجية التي اعتمدها لإبراز وجهة نظره اتجاه عدة قضايا وطنية، بتبنيه لتصور شفاف ومفهوم متعاليا بذلك عن ذاك الخطاب ذو الخلفية السياسية المسبقة، إلا أنه لم يسلم من انتقاد بعض ذوي العجز الفكري المنغمس في "التهريج" السياسي أولئك الذين قولهم أكبر من فعلهم وباتوا يشعرون بأنهم لا وزن لهم. راودنا الأمل لو كان الشعب الجزائري الشقيق، باستثناء المسئولين هناك لكونهم يعرفون جد المعرفة تاريخ العلاقات المغربية-الجزائرية ومواقف العروبة النبيلة التي تحلوا بها ملوك المغرب إبان حقبة الاستعمار وما تلاها حين أعطوا الأسبقية والأفضلية، كما يقال،" للجار قبل الدار"، قد تمكن من تتبع برنامج " Mais encore " الذي استضاف ولأول مرة مفكرا مغربيا ما أحوج مغرب اليوم لمثل شساعة فكره وغنى تجربته وموضوعية مقاربته لمختلف القضايا وخصوصا بساطة خطابه التواصلي. غريبة نقطة الخلاف التي خدشت بعض "الفقراء فكريا" والتي جعلتهم ينتقدون الخلاصة التي أشار إليها ضيف البرنامج والمتمثلة في كون الشعب المغربي مؤمن بالثورة الهادئة التي يعيشها المغرب، له الثقة في المجندين الساهرين على ضمان حمايته حدوديا وداخليا علاوة على ثقتهم بالقضاء في بلدهم. وعكس هذا فالمغاربة فقدوا ثقتهم في الأحزاب والنقابات والبرلمان. كما يقال، إذا كانت هذه هي النقطة التي أفاضت الكأس، فهذا أمر واقع ومعتاد وخاصة إذا كان مصدره أولئك المنتهزين الضيقي الرؤيا والفكر لكونهم ينتقدون هذا القول وهم على علم ويقين بواقعيته. كل المؤسسات عموما عرفت تطورا تختلف وثيرة تطوره من مؤسسة لأخرى ما عدا "المؤسسة" الحزبية وبالتالي أداء الجهاز التشريعي. فهؤلاء، والأهم من هذا كله، "الفقراء فكريا" قد تناسوا أن ثقة الشعب المغربي في أمنه وقضاءه أمر جد طبيعي لكونهما، وبكل ما تعنيهما هاتين الكلمتين من معنى، من بين ركائز البيعة القائمة بين الشعب وملكه. تساؤل بسيط: هل قطاع أمن الأمس هو قطاع أمن اليوم؟ بالفعل هناك تطور إيجابي ملموس ناجم عن التوجهات السامية بخصوص تفعيل مفهوم السلطة الجديدة. فقطاع الأمن وتطوره من القطاعات التي تتميز ب"حركية" هادئة ومنتظمة تتحكم فيها عدة عوامل من أبرزها وثيرة تطور سلوكيات أفراد المجتمع المغربي ووعيه. بل أكثر من ذلك، يمكنك اليوم طرق باب مسئول أمني بإحدى الدوائر وتجده حاضرا في مكتبه. الأمر الذي لا يمكنك أن تعاينه، بل من المستحيل، طرق باب منتخب والتواصل معه. فالتعامل والفكر الحزبي باتا جامدين وجاثمين تتوارثهما الأجيال الحزبية الموالية التي ينعم عليها "شيوخ" الأحزاب ببعض المناصب لتصبح بذلك بوقا للحزب يبرح بوجود "حركية". ثانيا، هل الحرية التي ينعم بها الشعب المغربي اليوم هي نفس الحرية التي كانت سائدة بالأمس؟ لا مجال للمقارنة. وحتى حرية التعبير، للإقتراب من مجال منتقد ضيف البرنامج، وخاصة مجال الصحافة، هي المسئولة كالأحزاب الناطقة باسمها عن صد الباب أمام كتاب الجيل الجديد لعلمها أن رؤيته للقضايا الوطنية وتطوراتها هي غير رؤيته التي كانت منسجمة مع حقبة من زمن المغرب أكل الدهر عليها وشرب. فإذا كانت الصحافة الحزبية تطالب بمزيد من "مساحة" التعبير، فلماذا لا تطالب أحزابها بفتح مواقع قراراتها للمؤهلات الصاعدة. لنقلها وبكل صراحة، لا يمكنها ذلك لكون التغيير من منظورها لن يِؤدي إلى إثراء وتكييف إيديولوجية الحزب، فهذا لا يهمها لكون الأولوية تعطى للإمتيازات المادية والمعنوية التي تحظى بها من خلال تموقعها على قمة هرم الحزب. أليست من الديمقراطية أن تنتقل من مهنة صحافي إلى مرتبة وزير أو سفير؟... أليست هذه بديمقراطية؟ أم لديهم مفهوما آخر لها ؟ فالمسئولون عن الأمن يتغيرون كل أربع سنوات على الأقل بالمقارنة مع المنتخبين والمسئولون عن الأحزاب الذين يضلون جاثمين في مقعدهم لسنوات وعقود هذا دون الحديث عن الفرق بين الرواتب وظروف العيش والعمل للساهرين عن أمن البلاد والمنتخبين. ولنقلها بكل صراحة في زمن الصراحة: فإذا اتهم الأولون ب"الرشوة" فالآخرون متهمون بالاختلاسات والتلاعبات في ثروات الشعب المغربي. ولكن هذا المنحى لن يعمر في ظل حزم عاهل البلاد على التصدي لكل ما من شأنه المس بسمعة البلاد والمضي ضد تيار التغيير. فانعكاسات هذا التغيير وتجلياتها في متابعة مسئولين سواء من القطاع الأمني أو القطاع السياسي أو الاداري... هو الذي، أعتقد ذلك، جعل ضيف البرنامج يؤكد على ثقة الشعب المغربي في التطور والتغيير التدريجي لمجال العدل في البلاد المندرج في أحد الأوراش الساهر جلالته على إنجازها: ورش إصلاح القضاء في المغرب. والمغاربة واعون أن معظم الأحزاب غير راغبة في هذا الورش لكون إصلاح مجال القضاء سيفضح كواليسها وخباياها وسيجعل في خبر كان حصانتها. والواقع أن جرائد الأحزاب أصبحت منبوذة وبدون جاذبية ثقافية ولا إعلامية. ويتحدثون عن حرية الصحافة؟ الحل بسيط، فلينطلق كل صحافي من ذاته ومحيطه وليتعامل مع محيط الآخر مثلما يريد أن يتعامل الآخرون مع محيطه وأفعاله وأسراره. فهذا النهج هو النهج الصحيح لكونه أفضل من القيام بنشر مقال يتضح فيما بعد أنه دون أساس، إذ يمكن اعتباره فتنة لا أقل ولا أكثر، لتلجأ الصحافة للاعتذار وطلب رأفة عاهل البلاد. أليست هذه الصحافة الناطقة باسم الأحزاب هي التي تطالب بضرورة فصل السلط ؟ فعندما تنشر صحيفة ما مقالا حول خصاص في الماء أوالكهرباء أو مستلزمات الصحة أو غيرها في أحد الدواوير، لا يجب على الصحافة الإشارة إلى الحدث فقط بل وجب عنونة مقالها بمناداة وتنبيه المنتخب أو رئيس الجماعة أوالوزير، بذكر اسمه وحزبه، عوض الاقتصار عن ذكر ساكنة الدوار، كمتهمين، أو الحدث أو الخصاص الواقع ليعلم القراء أن ليس السكان هم الذين يشتكون بل المنتخب هو الغائب ولم يوفي بوعوده. فالمنتخب يتنصل من مسئوليته "بالاختفاء" تاركا الأمر للأمن بل مرحبا بتدخله. ثالثا، أما بخصوص مشروع الجهوية الموسعة التي أقرها فكر عاهل البلاد، فهي بالفعل ذات إيجابيات شتى في مجال إقرار الديمقراطية وتوسيع صلاحيات المؤهلات البشرية المحلية ولكنها في نفس الوقت تضع الأحزاب الممركزة أمام تحد كبير يتمثل في إيجاد مؤهلات بشرية كفأة لتدبير الشأن العام المحلي. بل الأحزاب السياسية المغربية التي تعتبر نفسها عريقة، سينفضح أمرها من خلال عدم توفرها على هذه الأطر محليا لكونها وبكل بساطة لم تقم منذ القدم بتأطيرها ولم تتح لها الفرصة للمشاركة في تدبير شؤون الحزب ولا شؤون المجال المحلي. ففي هذا الإطار، تم طرح القطبية السياسية أو الحزبية لكونها هي الصيغة المناسبة والمنسجمة مع الجهوية الموسعة لكون القطب السياسي سيتمكن من توفير طاقات ومؤهلات محلية أكثر من حزب سياسي عمر طوال تواجده في المركز. وكان ضيف البرنامج على صواب عندما رهن نجاح مسار التغيير الذي يشهده المغرب بالعامل البشري لكونها على عكس مشروع التيار المحافظ الامريكي الذي أراد، من الفوق، إقرار جهوية موسعة بمفهومه وعلى مقاسه وهواه، ستنبعث الجهوية المميزة بمغربيتها تدريجيا من الشعب ومؤهلاته. وإذا أكد ضيف البرنامج على إمكانية تأثير الجهوية المغربية الموسعة على محيطها الخارجي فيمكن القول أنه يوجد ضمن الدول المجاورة للمغرب من أزعجه هذا التطور المتقدم الذي يتزعمه المغرب في مجال تدبير المجال المحلي لكونها "ثورة مفهوم السلطة" لم تعهدها، او فاجأت، خاصة دول الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط لكونها لا ترغب في التغيير والرقي بالمجال الديمقراطي للشعب وتفويضه تدبير شؤون محيطه اعتمادا على مؤهلاته المحلية والجهوية ليس فقط تفويض التدبير العشوائي ولكن تحت وصاية مبدأ المحاسبة. وهناك من الدول من سيزيد حقده على المغرب لكون مشروع الجهوية الموسعة ربما سيؤدي إلى زلزلة أسس نظامه الداخلي. والأمثلة على هذا التوجه بدأ في البروز. وعلى عكس هذا، حتى نكون إيجابيين، هناك من الدول من سترغب في تبني التجربة المغربية في مجال تدبير الشؤون المحلية والجهوية لشعوبها. *باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية [email protected]