النصرُ الانتخابِي الذِي حققهُ رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، في العاشر من غشت الجاري، سيكُون لهُ ما بعدهُ وسيفتحُ مستقبل تركيَا السياسي على سيناريوهات، تنذرُ بتحولاتٍ واصطداماتٍ، مع عزم أردوغان، تحويل نظام البلاد من نظامٍ برلماني إلى نظام رئاسي، يباشرُ فيه الرئيس المنتخب مباشرةً من الشعب، صلاحيَّاتٍ واسعة. تقديرُ موقفٍ صدرَ عن المركز العربِي للأبحاث ودراسة السياسات، بحثَ على إثر عرض الأوراق الرابحة لأردوغان، في الانتخابات الأخيرة، التي اجتازها بنجاحٍ رغم الهجوم الذي تعرض له وتهم الفساد التي طاردت محيطه، (بحث) في السيناريُوهات الممكنة مع إجراء الانتخابات التشريعيَّة القادمة، وترقب إقبال "إسلاميي" تركيا العلمانيَّة على تغييرٍ دستور، في ظلِّ صعوبةٍ على مستوى الخارطة السياسية، حتى وإن كان المصباحُ التركي قد استطاع، حسب النص ذاته، تقديم صيغةٍ جديدة للإسلام السياسي، وفقت في الاشتغال على أكثر من مستوى اقتصادي واجتماعي. فيما يلِي نصُّ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كما وردَ على هسبريس.. كما كان متوقعًا، فاز رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، بانتخابات الرئاسة التي جرت في العاشر من أغسطس/آب الجاري، ليصبح بذلك الرئيس الثاني عشر للجمهورية التركية منذ إعلانها عام 1923. ومع فوزه بانتخابات رئاسية مباشرة، بعد فترة طويلة في الحكم بوصفه رئيسًا للحكومة، أصبح أردوغان أكثر الشخصيات تأثيرًا في حياة تركيا السياسية، منذ مصطفى كمال أتاتورك. ونظرًا إلى طموحاته في إجراء تغييرات سياسية واسعة بعد هذا الفوز، تمسّ بعضها جوهر النظام السياسي التركي، فإنه يمكن اعتبار وصوله إلى سدة الرئاسة فاتحة لعهد جمهورية تركية جديدة. دلالات شكّل فوز أردوغان من الجولة الأولى للانتخابات ضربة جديدة لطموحات المعارضة التركية التي تقدمت بمرشحٍ واحدٍ، هو أكمل الدين إحسان أوغلو، الأمين العام السابق لمنظمة التعاون الإسلامي. وحاولت المعارضة من خلال حشد الدعم له في أن تصل الانتخابات إلى جولةٍ ثانيةٍ، يمكن أن تمنع أردوغان من تتويج حياته السياسية بالوصول إلى المنصب الأعلى في الدولة، والبقاء فيه مدة خمس سنوات قادمة على الأقل. وتوّج فوز أردوغان في انتخابات الرئاسة مسيرة انتصاراتٍ انتخابيةٍ متواصلةٍ، بلغ عددها تسعة بين برلمانية وبلدية واستفتاءات شعبية على تعديلات دستورية منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في نوفمبر/ تشرين ثاني 2002، وكان آخرها الفوز الكبير الذي حقّقه الحزب في الانتخابات البلدية، الأكثر حدّة واستقطابًا في مارس/ آذار الماضي. جرت الانتخابات الرئاسية بالاقتراع الشعبي المباشر لأول مرة؛ إذ كان ينص الدستور المعمول به منذ عام 1982، والذي جاء إثر انقلاب عام 1980، على أن اختيار رئيس الجمهورية يأتي بأغلبية أصوات البرلمان التركي. وقد دفع فشل البرلمان في اختيار رئيس جديد، ليخلف أحمد نجدت سيزار الذي انتهت ولايته في مايو/ أيار2007، بعد أن قاطعت أحزاب المعارضة أربع جلسات متعاقبة للبرلمان، للحيلولة دون انتخاب مرشح حزب العدالة والتنمية في ذلك الوقت، عبد الله غول، إلى إجراء تعديلات دستورية، للحيلولة دون تكرار الفراغ الرئاسي. وقد جرى الاستفتاء على التعديلات التي أقرت اختيار الرئيس بالاقتراع المباشر من الشعب في 21 أكتوبر/تشرين أول 2007، كما سمحت التعديلات للرئيس بالترشح لولايتين، مدة كل منهما خمس سنوات، بعد أن كان حقه يقتصر على الترشّح لولاية واحدة، مدتها سبع سنوات. وقد بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الحالية 74% من الكتلة الانتخابية، البالغ عددها 53 مليون ناخبٍ ممن يحق لهم التصويت، من أصل العدد الإجمالي للسكان البالع 77 مليونًا. وبحسب النتائج التي أُعلنت رسميًا، فاز أردوغان بنحو 52% من الأصوات، في حين حاز مرشح المعارضة، أكمل الدين إحسان أوغلو، على نحو 38.5%، وحلّ المرشح الكردي صلاح الدين ديميرتاش ثالثًا بنحو 9.5 % من الأصوات. وإذ قضى فوز أردوغان من الجولة الأولى على طموحات المعارضة في الوصول إلى جولة ثانية، فإنّ التقدّم بمرشحٍ إسلامي لمنع أردوغان من بلوغ الرئاسة يشير إلى مدى الضعف الذي يعتري الأحزاب العلمانية التقليدية في تركيا، والتحوّل العميق الذي طرأ في بنية المجتمع التركي، وميوله السياسية والاجتماعية في العقد الأخير. فقبل شهرين من موعد الانتخابات، وتحديدًا في 16 يونيو/ حزيران 2014، توصلت كبرى أحزاب المعارضة التركية، ممثلةً بحزبي الشعب الجمهوري CHP والحركة القومية إلى اتفاقٍ يقضي بتسمية إحسان أوغلو مرشحاً توافقياً، لخوض الانتخابات الرئاسية في مواجهة مرشح الحزب الحاكم. وجاءت هذه الخطوة مفاجئة، نظرًا إلى استحكام الخلافات الأيديولوجية بين هذين الحزبين، كما شكّل صدمةً لدى القاعدة العلمانية التي يستند إليها حزب الشعب الجمهوري، بسبب ترشيح مرشحٍ ذي توجه إسلامي، وهو ما يتعارض مع مبادئ الحزب، ويدلّ على افتقاره إلى شخصيات قادرة على المنافسة في انتخابات الرئاسة. لذلك، لم تكن هذه الانتخابات الأولى لجهة اختيار رئيس الجمهورية بالاقتراع الشعبي المباشر فحسب، بل كانت الأولى أيضًا التي لا ينافس فيها مرشح ينتمي إلى الأوساط العلمانية التقليدية، بعد أن انحصر السباق بين مرشحيْن، بهوية سياسية ذات جذورٍ إسلامية. ومن المهم التنبيه هنا إلى أنّ كلا المرشحين لا ينتميان إلى الإسلام السياسي، بمفهومه المألوف عربيًا، فكلاهما يقبل الدولة العلمانية الديمقراطية، ويتعهد باحترام مبادئها ودستورها. أما المرشح الثالث صلاح الدين ديميرتاش، فقد انحصرت أهمية ترشّحه في كونه أول سياسي كردي على صلة ب "حزب العمال الكردستاني"، يخوض الانتخابات الرئاسية، ما يدل على تغيّرٍ كبيرٍ آخر طرأ على الحياة السياسية التركية. ويعود الفضل في هذا التغيّر إلى رئيس الحكومة أردوغان الذي قدّم إلى البرلمان قبل شهر فقط من إجراء الانتخابات الرئاسية قانون المواد الست، المتعلق بعملية السلام الكردية، والذي التزم استمرار دفعها إلى الأمام. ولم يغيّر في نتيجة الانتخابات استنفار أحزاب معارضة أخرى، وانضمامها إلى دعم إحسان أوغلو بعد أن أعلن أردوغان ترشّحه للرئاسة في يوليو/تموز الماضي. فقد انضم إلى حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية، كلٌ من الحزب الديمقراطي DP، وحزب اليسار الديمقراطي DSP، وحزب تركيا المستقلة BTP، وأصدروا بيانًا موحدًا ومشتركًا أعلنوا فيه تأييدهم إحسان أوغلو. لقد استهدفت تكتيكات المعارضة تشتيت أصوات القاعدة المحافظة لحزب العدالة والتنمية، والحصول على أصوات الإسلاميين الذين لا يريدون التصويت لأردوغان، مثل أنصار جماعة "الخدمة" (فتح الله غولن) ومؤيدي حزب السعادة، وغيرهما من الأحزاب والجماعات الإسلامية الصغيرة غير الممثلة في البرلمان. ويبدو أنّ هذا التكتيك الانتخابي لم ينجح في تحقيق الهدف، كما لم تفِ بالغرض الرسائل الإيجابية التي وجهها مرشح المعارضة للناخبين العلويين الذين يشكّلون نسبةً عاليةً من المصوتين لحزب الشعب الجمهوري. أما الجمهور اليساري، فبدا أنه غير مقتنعٍ بالتصويت لشخصية يمينية. أما الأكراد الذين وجدوا لأول مرة مرشحًا رئاسيًا يمثلهم، فما كان لهم أن يصوتوا لمصلحة مرشح حزب الحركة القومية الذي يرفض سياسة المصالحة معهم التي تنتهجها حكومة حزب العدالة والتنمية. وفضلًا عن ذلك، لم تتأثر شعبية أردوغان كثيرًا بالأزمات التي عصفت بحكومته أخيراً، بدءًا من مزاعم الفساد، وصولًا إلى الاحتجاجات الشعبية والانتقادات الحادة واتهامه بالاستبداد من وسائل إعلام محسوبة على اليمين واليسار، على حدٍ سواء. كما لم تؤثر في شعبيته حملة التطهير التي باشرها تجاه أجهزة الدولة، وبخاصة القضاء والشرطة، إذ اعتبر أنّ هناك كيانًا موازيًا أنشأته وتديره جماعة "الخدمة". ويدل فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية وغياب مرشح من لون مختلف عنها على مدى التحول الذي طرأ على المجتمع التركي، وتوجهاته العامة، خلال العقد الأخير؛ إذ يبدو نفوذ الأحزاب اليسارية في تراجعٍ، يقابله تزايد الميل الشعبي نحو اليمين (الوسط والمحافظ)، كما دلت على ذلك جميع الانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية الأخيرة، ودلّ عليه، أيضًا، قرار حزب ينتمي إلى يسار – الوسط، مثل حزب الشعب الجمهوري، بتسمية مرشح يُصنّف على أنه من يمين - الوسط (إحسان أوغلو). وتذهب تقديرات إلى ترجيح حصول انشقاقات داخل ذلك الحزب، بعد أن خسر مرشحه الذي لا ينتمي إليه أصلًا الانتخابات من الجولة الأولى، وتمرد الأصوات التي عارضت هذا الترشيح، وكذلك محاولات إدخال تعديلات أيديولوجية على مبادئه لمجاراة التحوّل في المزاج الشعبي، وبروز تيّاريْن معارضين لهذا التوجه داخله، هما التيار اليميني المتشدد والتيار العلوي. ثنائية الرئاسة والحكومة والمأزق الفرنسي بموجب الدستور الحالي، فإنّ النظام السياسي التركي هو نظام برلماني، إذ تنبثق الحكومة (التي تمثل السلطة التنفيذية) من الأغلبية البرلمانية التي ينتخبها الشعب، في حين تكون صلاحيات الرئيس مقيّدة ومحدّدة. وعلى الرغم من أنّ صلاحيات الرئيس تتضمن، بحسب تعديلات عام 2007، تعيين رئيس الوزراء وقبول استقالته، فإنّ النظام لم يصبح رئاسيًا؛ فالرئيس ملزمٌ، مثلًا، بتسمية رئيس الوزراء من الكتلة السياسية الأكبر الممثلة في البرلمان. وطالما أنّ الكتلة السياسية الأكبر، حاليًا، هي حزب العدالة والتنمية، أي حزب الرئيس، فلا يتوقع أن يواجه أردوغان تحديات لسلطته، باعتبار أنّ رئيس حكومة من هذا الحزب قد لا يستطيع، أو لا يرغب، في تحدي رغبات رئيسه، بغض النظر عن هوية الشخص ذاته. لكنّ المشكلة ستبرز في حال فازت المعارضة في أي انتخابات برلمانية قادمة، وأصبح رئيس الحكومة من غير حزب الرئيس وتوجهاته. عندها، لن يكون في وسع أردوغان تنفيذ سياساته، حتى لو قام بتفعيل بعض الصلاحيات الخاملة لرئيس الجمهورية، مثل حقه في رئاسة مجلس الوزراء ورئاسة مجلس الأمن القومي. فقد يقع النظام السياسي التركي في مأزق النظام الفرنسي، عندما يكون الرئيس ورئيس الحكومة من أحزاب سياسية متعارضة؛ إذ يتسلح عندها الأحدث انتخابًا بالتفويض الشعبي الجديد لادّعاء كامل الصلاحيات التنفيذية، والإصرار على أنّ صلاحيات الرئيس شكلية. يدرك أردوغان هذا المأزق. لذلك، لم يخفِ في البرنامج الذي أعلنه في 12 يوليو/ تموز، أنّه لن يقبل أن يكون رئيسًا شرفيًا، لأنه منتخبٌ مباشرة من الشعب، وليس من الأغلبية البرلمانية، كما كان الأمر قبله، وبأنّه سيعمل عند توليه الرئاسة من أجل وضع دستورٍ جديدٍ للبلاد، يتضمن تغيير نظام الحكم، وإعادة توزيع السلطات بين رئيس الجمهورية والحكومة. ومن المؤكد أنّ فوزه من الجولة الأولى سيمنحه تفويضًا معنويًا لوضع تصوره للرئاسة موضع التنفيذ. لكنّ تغيير الدستور لن يكون سهلًا، فهو يحتاج موافقة ثلثي أعضاء البرلمان، وهو أمر غير متوفر، بحسب الخارطة السياسية الحالية. لذلك، من المرجح أن يعود حزب العدالة والتنمية، بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة، في حال فوزه فيها، إلى محاولة إقرار تعديل دستوري، يعدّل مهمات الرئيس ورئيس الحكومة، أو حتى يغيّر الدستور كله. وإذا لم يُقرّ مثل هذا التعديل، فسيظل النظام السياسي التركي يحمل في دواخله أزمة صامتة، أو معلنة؛ عنوانها صراع الصلاحيات بين الحكومة والرئيس، وهي الأزمة التي نتجت من التعديل الدستوري الذي جرى في عام 2007، وأقر أن يكون الرئيس منتخبًا مباشرة من الشعب، من دون أن يغيّر من صلاحياته الشرفية. طموحات وتحديات جرى تحديد اليوم الذي يسبق بداية ولاية الرئيس الجديد في 28 أغسطس/ آب، ليكون موعدًا للمؤتمر العام لحزب العدالة والتنمية، من أجل اختيار خلفٍ لأردوغان في رئاسة الحزب والحكومة، وتقرير ما إذا كان هذا الخلف سيكون انتقاليًا؛ أي حتى موعد إجراء الانتخابات البرلمانية المقبلة، منتصف العام المقبل، أم فعليًا. وبغض النظر عن ذلك، سوف يتعين على رئيس الحكومة الجديد التنسيق مع أردوغان، لقيادة البلاد، حتى موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة، والتي قد تشكل مناسبةً تصل عندها الطبقة السياسية التركية إلى توافق دستوري، لإعادة توزيع السلطات، بما يحول دون ظهور رأسين للدولة. لقد نجح حزب العدالة والتنمية، بهويته الإسلامية المعتدلة التي تخلت عن "الإسلام السياسي" المعروف، في طرح نموذجٍ تنموي جديدٍ، وفي ترسيخ أسس الديمقراطية التركية. كما كانت مساهمة أردوغان الشخصية مُهمةً إلى درجة تذّكر بالدور المهم للقائد والكاريزما الفردية في العمل السياسي. ولكنّ مسيرته باتت تظهر نزعات سلطوية واضحة، يعتبرها هو، ومن حوله، ضرورية لتثبيت إنجازات حزبه. وقد يكون هذا صحيحًا، ولكن امتحان الديمقراطية، وحتى الحياة الحزبية ذاتها في هذه الحالة، يكمن في قدرتها على تطوير آليات في مواجهة خطر تغييب الفصل بين الدور المهم للقائد ورفعه إلى مرتبة فوق النقد والرقابة. ولا يُخفي أردوغان طموحه في أن يكون على رأس الجمهورية التركية سيدًا مطلقًا، عندما تحتفل عام 2023 بالذكرى المئوية لإنشائها، وقد حقق رؤيته في تحويل تركيا إلى الدولة الإقليمية الأهم في المنطقة، ونقلها، كما وعد مرة، من الاقتصاد السابع عشر إلى المرتبة العاشرة في العالم. بيد أنّ تحديات كثيرة تنتظره حتى ذلك الوقت؛ إذ ما زال عليه أن يرتّب البيت الداخلي لحزبه، والإعداد لانتخابات العام المقبل البرلمانية، والتي يتوقف على نتائجها تحقيق رغبته في تعديل الدستور، وتحويل طموحه في أن يصبح رئيسًا مطلق الصلاحيات إلى واقع. وما زال عليه، أيضًا، أن يستمر في اقتلاع ما تبقى من هياكل الدولة العميقة، في شقّيها المدني والعسكري، وإيجاد حلٍ سياسي للقضية الكردية، ومواجهة الضغوط الداخلية والخارجية التي تدفعه باتجاه التخلي عن محاولته تحقيق توازن بين مواقفه الأخلاقية المدافعة عن الديمقراطية وحق الشعوب في العيش بحرية وكرامة إنسانية وبين مصالح تركيا الاقتصادية والسياسية، وخصوصاً أنها تواجه تحديات جسيمة في جوارها الجغرافي القريب، في ظل أزمات تعصف بكل من سورية والعراق وعموم المشرق العربي، وتهدد بتفككه وسيطرة تنظيمات متشددة على حدود تركيا معه.