التعليقات التي رافقت زيارة رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران للولايات المتحدةالأمريكية مؤخرا للمشاركة في أول قمة أمريكية إفريقية، والتي دارت بالأساس حول جلباب السيدة نبيلة بنكيران حرم رئيس الحكومة، وهي التعليقات التي طبعتها في الغالب سخرية رواد مواقع التواصل الاجتماعي، تخللتها رسائل صادرة عن الحزب الذي يقود الأغلبية والذي يحكم وإنْ كان ينكر على نفسه وعلى المغاربة هذه الصفة، ويلصقها كُرها وجُبنا وفرارا من المسؤولية بالملك.. هذه الرسائل وكعادة الحزب الإسلاموي الحاكم لبست لبوس المظلومية حينا، وحينا آخر ثوب التمويه والتضليل وذر الرماد في أعين المواطنين دافعي الضرائب، ليكون الهدف -وكما جرت عادته- منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات والذي يستمر في التسويق له والدفاع عنه باستماتة وبكل ما أوتي من تضليل وكذب وتدليس هو أنه )أي حزب العدالة والتنمية( يسير بثبات في الحكم ويحقق ما لم يحققه أي حزب من قبل ولا من بعد، والدليل –كما يتوهمون ويريدون أن يوهموا به الناس- هو "رضى" الملك الذي ما فتئ يُغدَق عليهم كما يُحب أن يتشدق بذلك رئيسُهم في مناسبة ومن دون مناسبة ! لن نسير على غرار كثيرين ممن رأوا في جلباب السيدة نبيلة موضوعا يستحق كل ذاك الاهتمام، بمن فيهم أعضاء من الحزب ومنهم وزراء سارعوا إلى تخصيص رسائل ومقالات في السياق، منافحين عن زوجة رئيسهم، التي نُكِن لها ولجلبابها، التي تتزين بها أيضا أمهاتنا وزوجاتنا وأخواتنا وبناتنا، كل الاحترام والتقدير، لكن سنعرض لتلك الردود الصادرة عن رئيس الحكومة وبعض أعضاء حزبه، على هامش تلك الزيارة التي لم تكن تلك الجلباب الفاقع لونها إلا الورقة الأخرى من الأوراق الكثيرة التي يريد السيد بنكيران أن يسخرها بعدما سخر العقيدة من خلال الحزب الذي يقود وكذا الأحفاد والأولاد لأجل السير أبعدَ ما أمكن في الحُكم، حتى وإن كان الفشل الحالي لحكومته بنسختيها هو أبرز علاماتها وعناوينها، مستبعدا أي تخلٍّ أو تنازل أو حتى إبعاد عن الحكومة، بعكس ما كان يتشدق به أيام المعارضة عندما كان يعِد بترك المفاتيح لأصحاب الدار عند الفشل ! من الرسائل التي يريد الحزب تمريرها إلى الرأي العام، من داخل العباءة الدينية التي جسدتها عن قصد وسبق إصرار وترصد الجلباب تلك الفاقعة، أن "الحزب الإسلامي" المغربي يمثل ذاك النموذج الحق للانفتاح الديني والتعايش السلمي؛ ولاحِظوا أن رئيس حكومتنا الذي لا يكلف زوجه عناء التنقل حتى داخل أرض الوطن، سواء لأجل نشاط حزبي أو رسمي، يُصر في زيارته إلى واشنطن على مرافقة أم أبنائه له، وبكل تأكيد كان ينتظر بفارغ الصبر ذاك الاستقبال الذي سيخصصه له ساكن البيت الأبيض، والذي بالمناسبة، ليس إلا جحر الشيطان كما كان يسميه الحزب سابقا، وإلى حد ما حاليا، والذي لطالما ولازال يحتل حيزا مهما في قواميس السب والشتم التي يحفل بها الحزب عندما يخرج أوراقه لتحقيق المكاسب والمغانم السياسية! وإذا كانت أمنية اختراق عتبة البيت البيضاوي تحققت لبنكيران وهو يتأبط أو لا يتأبط ذراع زوجته، فإن أكبر وأهم ما كان يُمَني النفس به وهو إشادة أمريكية بالحزب المحسوب على الإسلاميين، لم تتأت ل"إخوان" رئيس الحكومة، بحيث لم تشر كل بيانات الحكومة الأمريكية، على هامش القمة، والتي أتت على ذكر المغرب –لا من قريب ولا من بعيد- إلى هذا الحزب بالرغم من مرجعيته التي يعتبرها إسلامية؛ واحتفظت واشنطن بتلك الإشادات لبيانات وزارة خارجيتها السنوية حول الوضعية الدينية بالعالم، والتي ما تفتأ تؤكد على أهمية النموذج الديني المغربي في منطقة متقلبة وتعرف أصنافا من التطرف، ومن خلال تلك البيانات يُعاد الإشادة والتذكير بدور المؤسسة الملكية بصفتها "إمارة المؤمنين" في تقديم نموذج إسلامي متفتح وغير خاضع للُعبة الخبث التي يلعبها الزعماء السياسيون تحت يافطة "كل شيء ممكن في السياسة..." وإن كان ذلك باسم "أسلمة" السياسة، حيث لا يجد هؤلاء غضاضة في التبرؤ من "إخوان" لهم لا بل وحتى التبرؤ من المرجعية الدينية بمجرد هبوب عاصفة ارتدادية ل"ربيع عربي" أطاحت بمن أطاحت بهم، فخرجوا يعلنونها على رؤوس الأشهاد بأن لا علاقة لهم ب"التنظيم الدولي للإخوان"، وإن كان هؤلاء ليسوا شياطين ولا إرهابيين كما أريد لهم ! هاهُنا يكمن السبب الرئيسي الذي جعل قياديا في حزب العدالة والتنمية ووزيرا، عُرف عنه أنه من الجناح المعتدل الذي يجنح إلى الهدوء وإلى المهادنة بالحزب ولا يفضل نهج أسلوب "عيالات الحمّام" والتراشق بالسباب والشتم، يخرج عن جادة صوابه ويوزع رسالة على الصحافيين الذين يسبهم رئيسه ويشك في ذممهم، ليتهم منتقدي "الجلباب" بأنهم "خفافيش الظلام" الذين يريدون التغطية على ما حققته زيارة بنكيران لواشنطن من نتائج إيجابية في مجالات الطاقة والاقتصاد والخدمات وغير ذلك ! الواقع أن ما جعل الوزير والقيادي الحزبي المعني، ونقصد محمد بوليف، الخبير الاقتصادي أيضا يتخلى فجأة عن التحليل الاقتصادي النزيه ليبرز لنا ما قيمة وطبيعة وموقع المساعدة الأمريكية للمغرب من أصل 37 مليار دولار لدعم الاستثمارات بالقارة الإفريقية، كما جاء على لسان الرئيس الأمريكي، واعتماد 110 ملايين دولار سنويا لمدة 5 سنوات لمواجهة الإرهاب، وبدل ذلك انبرى يطلق صفة ظلت لصيقة ب"الإسلامويين" وهي "خفافيش الظلام" على منتقدي الجلباب إياها، وغالبيتهم هم مرتادو مواقع التواصل الاجتماعي، ما جعل الوزير بوليف يفضل الحَمية على هدوئه المعروف، هو العودة من واشنطن بخُفي حنين بعدما علقوا آمالهم على "جلباب" حسبوا أنها قادرة على تحقيق انتصار معنوي هم في أمس الحاجة إليه، في حربهم السياسية والإيديولوجية، لكن لا شيء تحقق من ذلك. بل الأكثر من ذلك أن البساط سُحب من رئيس الحكومة لفائدة وزراء التجمع الوطني للأحرار )وهم وزير الخارجية صلاح الدين مزوار، والوزيرة المنتدبة في الخارجية مباركة بوعيدة، ووزير الصناعة والتجارة والاستثمار والاقتصاد الرقمي مولاي حفيظ العلمي(، الذين وإن تبنيا المنطق نفسه الذي تتهم به المعارضةُ الحزب الحاكم، وهو طغيان الحزبية على العمل الحكومي الجماعي في خطاب "البيجيديين"، فإن تحرك هؤلاء كان بارزا وفاعلا في واشنطن، بل إن حتى إحدى الاتفاقيات التي وقعتها مباركة بوعيدة مع السفيرة المتجولة المنسقة لشؤون مكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية الأمريكية، تينا كايدانو، أتت على التنويه بدور الملك أمير المؤمنين في تكوين أئمة دول إفريقية كمالي، مما يساهم في محاربة التطرف، ولم يتم الحديث عن دور مفترض في المجال للحزب الحاكم من قبل ساسة واشنطن. ماذا يعني هذا؟ رئيس الحكومة الذي ذهب إلى واشنطن فقط من باب "الإنابة" عن رئيس الدولة، كان ينوي استغلال الزيارة لتحقيق مكاسب معنوية على الأقل لفائدة حزبه، وهو يزور أكبر عواصم العالم وأكثرها تأثيرا، غير أن المسعى قد خاب، انطلاقا أولا من أن واشنطن لن تنطلي عليها خدعة رئيس حكومة لم يمض أكثر من ثلاث سنوات في الحكم كلها تضارب وتردد وعدم اتضاح رؤية، وأكثر من ذلك لم يحسم حزبه بعد في مرجعيته "الدينية"، وثانيا لأن علاقات واشنطن، كما هي باقي دول العالم بنظيراتها الأخرى تنبني على أساس النظر إلى طبيعة الأنظمة وعمقها التاريخي وليس على أساس ألوان سياسية تتلون بألوان أطياف الفصول وبحسب ظروف التسابق والتجاذب التي تفرضها الاستحقاقات الانتخابية. النقطة أو الرسالة الأخرى التي يريد حزب بنكيران "الإسلامي" تمريرها، على ضوء الجلبة والهرج الذي صاحب زيارة بنكيران إلى بلاد العم سام، إلى واشنطن أولا وثانيا إلى الذين يهمهم الأمر من بني جلدته بهذه الرقعة الجغرافية، هي تجديده التبرؤ من الإخوان المسلمين ومن كل ما له علاقة بالمرجعية الإسلامية، بحيث بدا بنكيران متناقضا في حديثه إلى قناة "الحرة" الأمريكية وهو ينفي عن حزبه صفة "التيار الديني" في نفس الوقت الذي يؤكد أنهم حزب سياسي بمرجعية إسلامية، كما ينفي صفة "الدعوية" عن حزبه، بينما في الوقت الذي كان يمضي زيارته في واشنطن كان إخوانه في حركة "التوحيد والإصلاح" ينصبون عبد الرحيم شيخي مستشار بنكيران في رئاسة الحكومة وذراعه اليمنى في الذراع الدعوية للحزب، على رأس هذه الحركة الدعوية. ولعل ما يثير كثيرا من الاستغراب هو إصرار رئيس الحكومة على مواصلة تهجمه على صحافة بلاده، وإن كان يحاول الظهور بمظهر المميز بين الصالح والطالح في جسد "صاحبة الجلالة"؛ بحيث كان لافتا تمادي بنكيران في اتهام منتقديه بالرشوة وبفبركة مقالات تحت الطلب فقط لانتقاده ! الشيء الذي جعل محاوره، على قناة الحرة، لا يتردد في تنبيه رئيس الحكومة إلى خطورة ادعاءاته ومزاعمه وإذا ما كانت له أدلة على اتهاماته ! من جانبنا كصحافيين نلفت انتباه السيد بنكيران إلى أن الجسد الصحافي ببلادنا هو عليل تماما كما هي عليلة وقصيرة رؤية سياسي يترك ملفات الشأن العام المتراكمة والمؤجلة الحلول ليتفرغ لتوزيع صكوك الاتهامات وبراءات حسن النوايا بقدر التأييد والانتقاد لسياسته العمومية. الصحافة ببلادنا –ليكن في علمك السيد رئيس الحكومة- فيها من الصحافيين بل ومِن رؤساء ومدراء التحرير من باتوا يبتاعون في مهنة صحافي فيمنعون الصفة عن هذا ويمنحونها لذاك بمقابل، ومنّا من يمارس التخابر أو البولسة بل والقوادة أحيانا، وبأحرى أن يسخر قلمه لمن يدفع أكثر؛ لكن كل ذلك لن يشفع لك أيها الموظف السامي بأن تشهر بالصحافيين ككل، عبر منبر دولي، فقط للتستر على إخفاقاتك وحزبك التي باتت تتراءى بوضوح لكل ذي بصيرة.. وإذا كان من بين الصحافيين من لهم الجرأة على انتقادك وانتقاد الفساد بالمهنة التي يقتاتون منها، فنتمنى أن تكون لك الجرأة، يا رئيس الحكومة، لتعلنها صراحة بأنك قد عجزت وخشيت أن تقترب من جحور التماسيح العائثين في الأرض فسادا، بل الأخطر أنك منحتهم صك غفران ب"عفا الله عما سلف" الذي رفعته منذ تسلمت المفاتيح ! [email protected]