قبل سنوات، وفي لقاء جمع رئيس دولة عربية ببعض الإعلاميين والكتاب في بلده، انبرى أحد الإعلاميين مخاطبا الرئيس " سيدي الرئيس : لازم تخلقوا مشكلة مع أحد جيرانكم، حالنا واقف ومش محصلينا حاجه نكتب عنها".... في عالم السياسة، ومنذ القديم، ظلت هناك خلافات بين هذه الدولة أو تلك، وهو أمر طبيعي جدا فليس من المنطقي أن تتطابق وجهات نظر جميع الدول حول جميع القضايا المختلفة، فلكل وجهة نظره تجاه هذا الأمر أو ذاك وبوصلة مصالحه ومبادئه التي يحدد بها اتجاهاته شرقا وغربا وشمالا ويمينا.. ونادرا ماتخرج الخلافات السياسية عن نطاق السيطرة لتتحول إلى وقود للحرب ومسعر للأزمات الكبيرة، فالكل يسعى دائما إلى تجنب التصعيد والكل يعرف تكلفة الحروب المالية والبشرية، ولذا فإن الدبلوماسية والمفاوضات غالبا ماتكون هي الحيلة التي يلجأ إليها الجميع لتدوير الخلافات ومحاولة ترويضها قبل أن تتحول إلى وحش كاسر لا يبقي ولايذر... ولإن كان الساسة وصناع القرار في أغلب دول العالم حريصون كل الحرص على الحفاظ على تجنب التصعيد مع أي كان ومهما كانت حدة الخلافات، إلا أن ثمة طائفة أخرى لاهم لها إلا أن تنفخ النار في كير الصراعات، "وأن تخلق من الحبة قبة"، وأن تمنع أي محاولة للتهدئة بين أي متصارعين مهما كانوا، لأنها ببساطة تحترف "مقاولة الصراعات"، وتلعب دور النفخ في النار، وطريقة عيشها الوحيدة هي "التحريش" بين الدول والشعوب والارتزاق مما يجود به الغاضبون... إنهم "النافخون في النار" و"مشعلو الحرائق" من مثقفين وكتاب وصناع رأي، والذين بدل من أن يسخروا أقلامهم وحناجرهم وفكرهم لتهدئة النفوس وإشاعة السلام، تراهم عكس ذلك ينفخون في كل صراع مهما كان صغيرا حتى يكبروه، ويعظمون كل خلاف مهما كان تافها، حتى تظل الأجواء مشحونة و"العداد شغال والحسابه بتحسب".. يتحسس هؤلاء بأنوفهم "الارتزاقية" مظان الخلاف، فيحومون حولها، ولا يزالون يغرون أصحابها، ويزينون لهم التصعيد أكثر، حتى يتسع الخرق على الراتق، وحتى تتحول الخلافات السياسية البسيطة، بل وأحيانا الفكرية، إلى صراعات مزمنة وأحيانا حروب، وكلنا يعرف أن "الحرب مبدأها كلام"... لا يجيد هذا الصنف من أشباه المثقفين السباحة في مياه نظيفة، وإنما يحترفون دائما التجديف في المياه العكرة، ولا يحلو لسفنهم الإبحار إلا وسط أمواج الصراع والخلاف والشقاف بين هذا الشعب وذاك وتلك الحكومة والأخرى. ولعلنا، في اللحظة العربية الراهنة، الطافحة بالخلافات، والمليئة بالتشظي السياسي والفكري، نجد أن سوق هؤلاء أكثر نشاطا، وضجيجهم أعلى صخبا، وحبائلهم الشيطانية أكثر فتكا، لأن الكل مشحون ضد الكل ، والنفوس المتحفزة من السهل جدا أن تستمتع لمسعري الحروب ومؤججي الخلافات.. وتكفي جولة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات الصحف والمواقع الإلكترونية، لنرى كيف أن علاقات الشعوب العربية ببعضها تتعرض الآن لحملة "تسعير" ممنهجة نظرا لخلافات سياسية طارئة وزائلة، وهي حملة تكمن خطورتها في أنها قد تترك شروخا عميقة بين الشعوب، وتربي الأجيال على الحقد المتبادل ، وتصنع موروثا من الشتم والسب من الصعب أن ينمحي من النفوس والقلوب، حتى ولو وجدت الخلافات السياسية طريقها إلى الحل كما يحصل دائما.. إن هؤلاء النافخين في النار نسوا، أو تناسوا أن "جراحات اللسان والكلمات" من المستحيل أن تلتئم، وأن التعريض بالشعوب وتاريخها ورموزها، نفاقا لآخرين، هو محض السفه، فمهما عظمت الخلافات السياسية وتباينت الآراء فإن قدر الشعوب والمجتمعات العربية والإسلامية أن تتعايش وأن تعلو فوق الخلافات، ببساطة لأن تاريخ العالم علمنا ذلك، فبالرغم مما حصل بين الأوروبين من صراعات وحروب دامية، فإنهم في النهاية عادوا وتصالحوا مع أنفسهم وصنعوا حاضرهم المشترك، ولم يذكر التاريخ من تسبب بتأجيج الخلافات وتسعير الأزمات سوى ب"اللعن"... لا شك أن رسالة الفكر والقلم، رسالة جليلة، ومن العبث والجنون أن يستغلها أصحابها لزرع الشقاق وبذر الخلاف، مقابل مكاسب شخصية آنية سخيفة، فمصلحة المجتمعات أولى، وتقريب الإخوة المتباعدين أكثر نفعا على المدى المتوسط والبعيد.. *كاتب موريتاني [email protected]