لم تعمل الهجمات الإسرائيلية على المدنيين في غزة إلا على تصدير الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لباقي العالم. فتحول الصراع الثنائي إلى قضية إنسية ( Cause humaniste). فأضحت جميع أشكال التضامن مع غزة والاحتجاج ضد الهجمات الإسرائيلية نوعا من أنواع التعبير عن الإنسية (Humanisme)التي افتقدها المجتمع الدولي منذ عدة قرون . هذا التحول في التعاطي مع ما يجري في غزة تلته عدة تغيرات في الخطاب الإعلامي الدولي والعربي مع بعض الاستثناءات ( بعض القنوات المصرية) التي أضحت نشازا مقارنة مع الإجماع العالمي على رفض التقتيل الإسرائيلي للمدنيين الفلسطينيين. يتجسد هذا التغيير في تحييد و تغييب مقولات "الإرهاب" و"الحركة الإرهابية" فيما يخص الردود الميدانية لحركة حماس حيث تم الانتقال الخطابي من نسق أسطورة الضحية (إسرائيل نموذجا) إلى أيقونة الجلاد والقاتل بالتسلسل (serial killer) الذي يقتل الأطفال والنساء ولا يكثرت بإنسانية ضحاياه و يحتمي بدول أعلنت مساندتها العلنية للتغطية عن جرائمه مثل فرنسا التي منعت المسيرات المتضامنة مع المدنيين الفلسطينيين تحت ذريعة رفضها لتصدير الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لفرنسا. فالتوافق والإجماع العالمي على رفض الغارات الحربية الإسرائيلية ضد غزة يمكن اعتباره نسقا من أنساق إعادة إنتاج الحركة الإنسية التي عرفتها أوربا خلال القرنين 15 و 16 والتي قامت على مقولة تمجيد وإعادة الاعتبار للإنسان كما شكلت قوة عقله وتكوينه محور تمثلاتها وأساس فكرها. ولكي تنتشر الثقافة الإنسية بين دول أوربا كان من الضروري تعلم اللغات كركيزة من الركائز الأساسية لإيصال اللفكر والتوجه الإنسي. في الوقت الراهن يمكن معاينة انبثاق فكر إنسي كوني جديد (néo-humanisme mondial) لا يقتصر على جغرافية محددة (القارة الأوربية خلال القرنين 15 و 16) بل يتحداها ليعم جميع القارات ساعدت في انتشاره وتطوره عدة عوامل منها: - التواصل عبر بوابة العالم الافتراضي من خلال المنتديات والمواقع الاجتماعية - التفاعل عبر وسائل التعبير اللغوي كانت عالمية ( مثل الانجليزية) أو تمثل تكتلات لغوية (العربية، الفرنسية، الاسبانية، ...) أو إقليمية أو وطنية أو محلية كآلية لتقاسم وتشارك موجات التضامن والتعبئة - الانتقال من فضاء الايدولوجيا المعقد والمنحصر في فئات بعينها إلى فضاء "الصورولوجيا" (Imagéologie) المباشر والمنفتح على جميع الشرائح. انطلاقا من هذه العوامل يمكن اعتبار أن التضامن المتواصل واللامشروط مع المدنيين الفلسطينيين حيث لا لغة له، لاجغرافية له، لا دين له، لا لون سياسي له، لا انتماء عرقي أو اثني له، ... تم احتضانه من داخل حركة مواطنة و مدنية إنسية كونية بطريقة تلقائية تم التركيز فيها على الإنسان ورمزية كرامته وتشبته بحقه في الحياة. من هذا المنظور فجرائم إسرائيل التي تنكشف من خلال مشاهد أشلاء الجثث و الترويع والقتل والترحيل و التخويف و الترهيب والتنكيل بأطفال ونساء وشيوخ ساكنة غزة التي يقترفها الجيش الإسرائيلي لا يمكن وصفها باللإنسانية (Inhumaine) إنها مع كل المسافة الموضوعية والتجرد المفاهيمي اللازم "لا إنسية" (inhumaniste). في هذا السياق يجب التذكير بأن مفردة إنسية تحيل في اشتقاقها اللغوي على إنسية الإنسان وإنسه وتجانسه وتآلفه أي انتمائه لبني البشر الذي يتميز على باقي الكائنات بكونه يروم وينتهج سلوكات اجتماعية و ثقافية و قيمية تصب في تقوية الروابط الأخلاقية مثل التعايش والتشارك والمساندة والعاطفة (Empathie) لتصبح سلوكيات الانعزال والتنكر والاستعلاء والمغالاة والتطرف والاستفراد والعنصرية و الإكسنوفوبيا منهجا ومسلكا لا إنسيا يذكر ببعض التيارات الفكرية والنزوعات الإيديولوجية من قبيل النازية والفاشستية والابارتايد ... تبعا لهذه المقاربة يمكن اعتبار الصمت المحتشم لغالبية الهيئات الدولية و القنوات الرسمية ( الاتحاد الأوربي، الولاياتالمتحدة، الجامعة العربية، هيئة الأممالمتحدة، ... ) مع تسجيل بعض الاستثناءات (موقف المغرب) نوعا من أنواع الالتفاف على لا إنسية الهجوم الإسرائيلي على غزة وتشجيعها على خلق ثقافة جديدة يصنف فيها الإنسان بحسب الرهانات والتحديات الجيوسياسية وكمثال على هذه التراتبية في الإنسية ردود الفعل الحازمة والصارمة داخل هيئة الاممالمتحدة والتي تلت تحطم الطائرة الماليزية ووفاة أكثر من 272 شخص فوق المنطقة التي يسيطر عليها الثوار الموالون لروسيا. في المقابل، لم تتحرك الآلة الدولية لاتخاذ القرارت الرادعة للهجوم الإسرائيلي على غزة التي تلقت في غضون الأسابيع الفارطة أكثر من 500 طن من المتفجرات وخلفت أزيد من 584 ضحية مدنية وما يزال هذا العدد مرشحا للارتفاع. يمكن تفسير هذا التناقض والتراتبية في الإنسية من خلال استقراء ردود الفعل الرسمية المؤسساتية الدولية عبر مستويين مختلفين، مستوى خطابي ينم على انفصام لغوي (سكيزوكلوسييا) يعمد لغة التضامن والمساندة والعاطفة اللامشروطة لإسرائيل ضد "الحركة الإسلامية حماس" في مقابل نسق دلالي محتشم وحذر لا يتعدى سقف "القلق" من جرائم الجيش الإسرائيلي والتي تصنف في خانة الدفاع عن النفس ومستوى دبلوماسي يهدف إلى قطع الطريق على الفلسطينيين للمطالبة بدولتهم وحقوقهم الترابية عبر خلق لوبيات قوية ومرافعات مهيمنة تستمد مضامينها من أساطير الضحية التاريخية (Mythes fondateurs) الهدف منها تأثيث المنتديات والمحافل الدولية بفضاء من العداء والإكسنوفوبيا لكل ما هو فلسطيني. إن منطق كل فكر أو فلسفة تحب وتحترم الإنسان لا يمكن إلا أن ترفض هذا العداء المفرط بعيدا عن كل الحسابات الدبلوماسية والسياسية والإستراتيجية والدينية والعرقية والمذهبية. فمشاهد الدمار والإبادة والقصف والمتفجرات لا تحجب على المتتبع صور أشلاء وجثت أطفال ونساء وشيوخ ومدنيو غزة و ليتيقن كل من يحب ويقدر العنصر البشري أن إسرائيل تجسد بجرائمها نوعا متشنجا ونوعيا للفوبيا الإنسية. لكن في مقابل هذا العداء المرضي و الآليات و المواقف المتحيزة لإسرائيل انبرت حركة إنسية كونية على اثر الهجوم الأخير على غزة للترافع لصالح الضحايا المدنيين للضغط على الحكومات والمقررين السياسيين لاتخاذ التدابير اللازمة لوقف العدوان الإسرائيلي. هذه الحركة الإنسية التلقائية والمنظمة من خلال شبكة عالمية للناشطين المدنيين والحقوقيين يمكن أن تشكل في المستقبل القريب بديلا لبعض الشبكات مثل تلك المنضوية تحت شعار مناهضة العولمة altermondialisme) ( أو المنتدى العالمي الاجتماعي التي لم تقوى على مواجهة واختراق اللوبيات المدنية المساندة والداعمة لإسرائيل. إن اعتماد الإنسية في المساندة والتضامن والوقوف مع غزة يشكل مدخلا أساسيا لإعادة التنسيق في إيجاد الحلول ومنعطفا فكريا يظهر بشاعة السلوك الإجرامي لإسرائيل لاسيما إذا تم استحضار المرجعية الفلسفية والرمزية لمدرسة و رؤيا تكرس لكرامة الإنسان وتعمل من أجله ومن أجل إسعاده وخدمته ورفاهيته. من هذا المنطلق فهجوم إسرائيل وتقتيلها لأهالي غزة ليس فقط شأنا فلسطينيا إسرائيليا يمكن حصره في صراع ثنائي بل هو أساسا قضية إنسية تضرب في عمق إنسانية الإنسان و تتجاوز الحدود الجغرافية والإقليمية وتتصل بماهية و طبيعة الإنسان وتحيل مباشرة على خلل كوني يساءل براءة الإنسان بطبيعته لا سيما مع المشاهد المتكررة للعنف الإجرامي الإسرائيلي ضد الأطفال والنساء والرضع.