تتطلب الطريق إلى الغد الجماعي حلماً جماعياً، وفي الطريق إلى بلوغ الحلم الجماعي هناك: منعرجات الطبيعة البشرية وواقع الجغرافيا ومواردها الطبيعية، وموازين قوى تتفاعل، وثقل ماضٍ وإرثُهُ، وتحديات حاضر ومستقبل...وفي قلب كل هذا هناك عنصر هام جدا: "السياسة". فمن أجل إتمام المسيرة واستمرارية مسار المجتمع البشري لا بد من السياسة. لتدبير شأن الدولة وشؤون المواطن، ومع التدبير تبرزُ ممارسات سياسية تتراوح بين الايجابي والسلبي، بين الصواب والخطأ والخطيئة، بين النظرية المُبتغاة والواقع المعقد وأفضل الممكنات. والسياسة شأن من المفروض أن يسمو بالنوع البشري، وهي تكون فعلاً كذلك طالما كانت مرتبطة بالأخلاق، لكنها تنحرف عن ذلك بابتعادها عنها. وبابتعادها ذلك تبرز عدة أمراض سياسية لتصيب الجسد السياسي للمجتمع، من بينها فقدان الشهية السياسية. أو ما أُرِيدُ أن أُطْلِقَ عليها مصطلح "الأنوركسيا السياسية"، فما هي هذه الأنوركسيا السياسية؟ تعرف الأنوركسيا Anorexie على أنها:" نقص أو توقف التغذية بسبب فقدان الشهية أو رفض التغذية"، وعلى هذا المنوال يمكن تعريف الأنوركسيا السياسية على أنها:نقص أو توقف التغذية السياسية فكريا وثقافيا، نظريا وعمليا، بسبب فقدان الشهية للعمل السياسي، أو رفض التغذية المعرفية السياسية". و الأنوركسيا السياسية مرض يبدو متجذرا في جسد المجتمع السياسي العربي، إذ يعاني هذا الجسد من نقص حاد في التغذية السياسية، وتنعدم لديه الشهية لتناول الأطعمة الشعاراتيةّ التي أعدت منذ وقت سحيق القدم، ولا الوجبات الانتخابية التي لم تعد تحتفظ بطرواتها ومذاقه، ولا المأكولات المحترقة للسجالات العقيمة التي تُحَضِّرها المعارضة. لقد فسد الطعام وأصبحت نكهته مقرفة، ولن يفيد في شيء إضافة بعض البهارات التسويفية إليه، بل يجب القيام بإعداد وجبات أخرى للشعوب، تكون وصفاتها غنية ببروتينات النمو الاقتصادي، وفيتامينات العدالة الاجتماعية، والأملاح المعدنية الديموقراطية.... وصفات متكاملة لبناء جسم مجتمعي سليم وقوي. ولعل فقدان الشهية السياسية هو عرض مرضي لاختلال جهاز الهضم الادراكي الذي لم تعد له القابلية لتقبل أطعمة تم إعدادها في مطبخ بعض الهيئات السياسية ، وذلك لما ألحقته بالجسم السياسي من آثار ضارة، تبين معها أن تلك الأطعمة قد انتهى تاريخ صلاحيتها، ولم تعد صالحة للاستهلاك السياسي في زمن الحداثة. لهته الأنوركسيا السياسية التي يعاني منها الجسد السياسي العربي، والتي لا يحاول أولئك الذين يدعون كونهم "حكماء" السياسة إيجاد علاج مناسب لها، مضاعفات مرضية عديدة، كفقر الدم السياسي Anémie politique الناجم عن عدم انكباب الكريات الشبابية الحمراء بشكل كاف في أوردته الحزبية والحكومية...كما أن هذا الجسد الأنوركسي معرض للاصابة بترقق العظام، وهو مايسببه الاستمرار ولمدة طويلة في تقديم الوصفات الديماغوجية، والشعارات الجوفاء التي لا تسمن ولا تغني من جوع. إنه لمن باب المستحيل أن ينمو أي جسد سياسي بدون برنامج غذائي متوازن فكريا وسياسيا وإقتصاديا، وهو ما يتطلب تتبع وصفات حوارية، وعلاج فكري- معرفي يكون غنيا بالجدل الخلاق. إن جسدا سياسيا أنوركسيا، هو جسد ضعيف وواه، معرض باستمرار لتدخل المبضع الأجنبي، والذي قد يكون دولة أو متمثلا في المنظمات الدولية التي نصبت نفسها كمنظمات للأغذية "الديموقراطية" والزراعة" العولمية"، لتجرب في الجسد السياسي والمجتمعي العربي أدوية وعمليات قسرية، وبهدف قد لا يكون هو العلاج، والتي تكون أثارها وخيمة جدا.