ارتبط شهر رمضان الأبرك في ذاكرة سلا العتيقة، بالعديد من المظاهر والطقوس الدينية التي لازمت ساكنتها وانعكست على سلوكياتهم وقيمهم الروحية، وبقيت تقاوم التحولات الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية التي شهدتها المدينة خلال العقود الأخيرة. يبدأ السلاويون، خاصة سكان المدينة العتيقة، استعداداتهم لصيام شهر رمضان بتنظيف الأغطية والأفرشة و"تجيير" البيوت والأزقة، لتتشكل مظاهر للزينة بالمدينة لم تكن قد اعتادتها في غير رمضان. ويمثل الاستعداد الروحي، الحيز الأكبر لدى السلاويين، حيث يتهيئون إلى ترك ما اعتادوه من مألوف وفعل ما يزكي النفس والروح. ومن مظاهر ترك المألوف والاستعداد لشهر رمضان، الاحتفاء ب"شعبانة"، وهي كما يقول المخرج المسرحي السيد عبد المجيد فنيش، أحد أبناء المدينة العتيقة، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، "إن هذا الاحتفاء يقام ابتداء من منتصف شعبان بغرض توديع المألوف اليومي من نمط نطق وقاموس لغة طبع لسان أهل المدينة لعدة شهور من السنة والذي يجب أن يهجر خلال رمضان. ويتم الاحتفاء ب"شعبانة" من خلال حفل ذكر تقيمه نساء تدعى "الفقيرات" وتتم خلاله تلاوة القرآن والأمداح النبوية، فيما يخرج الرجال إلى البساتين و"السواني" ويستمتعون بالملحون والطرب الأندلسي، قبل القيام بجولة على مثن القوارب في "قاع الواد" موقع بنهر أبي رقراق بجانب ما يسمى اليوم بعكراش حيث يقضون يوما أو يومين ثم يعودون إلى بيوتهم بالتهليل والتسبيح. ويضيف فنيش أن الاستعداد لرمضان يأخذ طقوسية خاصة خلال شهر شعبان، حيث تنشط كل الزوايا والأضرحة المتواجدة بالمدينة، فبمجرد دخول شهر شعبان تبدأ حلقات الذكر والسماع الصوفي وتلاوة القرآن الكريم بالمساجد والزوايا والأضرحة. وحول إعداد الموائد الرمضانية، يشير فنيش إلى إن الأسر السلاوية دأبت على إعداد أكلات رمضان بطريقة تقليدية، مضيفا أن كل بيت من بيوت "المدينة" كانت توجد بها أفران تقليدية (كانون) وعلى هذا "الكانون" كانت تحمص النباتات وتعد أنواع القطائف مثل "البغرير"، وتحضر لوازم حلويات رمضان. أما الحاجة فاطمة السلاوية، (امرأة مسنة آثرت العيش بالمدينة العتيقة)، فتصف حالة المدينة وهي تستعد لشهر رمضان بالقول "تغزو الأزقة والدروب مع بداية شهر شعبان رائحة "الزميتة" التي يتم إعدادها من عدة أصناف من الحبوب والبذور مثل بذرالدلاح والحمص والقمح والشعير، ويتم إرسال هذه المواد إلى "فران الحومة" لتحميصها قبل إرسالها من جديد إلى المطحنة، ويحتفظ بالمسحوق الذي يستعمل قدر منه كل يوم بيومه بعد خلطه ب"الزبدة البلدية" والعسل. ويبدأ الاستعداد اليومي لصيام رمضان بسلا، من خلال تهيئ أول سحور، حيث لا يشمل هذا الأخير غير المواد الجافة و"لمشوذر"، وهو عبارة عن شذرات من الخبز تغمس في الحليب والبيض ثم تقلى في الزيت وتقدم مع الحليب، بالإضافة إلى "الرغيف" و"البغرير". وتصنف مائدة الإفطار، حسب الأسر، إلى نوعين يشمل الأول منها "الحريرة" و"الشباكية" والتمر والبيض .. متبوعة بوجبة العشاء مباشرة، التي تتضمن "الطاجين" بالدجاج أو اللحم أو السمك. أما الصنف الثاني فتقدم خلاله السوائل (شوربة أوشاي أو قهوة) والفطائر والحلويات، ولا يتناولون وجبة العشاء إلا بعد أداء صلاة العشاء والتراويح. المسجد الأعظم ...ملتقى للذكر ومجمع للأهل والأقارب ظل المسجد الأعظم محافظا على عادات وتقاليد السلاويين خلال شهر رمضان، فقد كان بمثابة مجمع للأهل والأحباب، وملتقى أوحد لمن لم يلتق طيلة السنة ومجمعا لحملة كتاب الله وطلبة العلم والمعرفة، القادمين من مختلف ربوع المملكة. ويحضر أعيان المدينة وعامتها، بعد كل صلاة عصر، للاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم تلاوة جماعية، حيث تأخذ هذه التلاوة طابعا خاصا وحالة تفرد قل نظيرها. وإذا كان المسجد الأعظم في رمضان قبلة للوافدين، في نهاية كل أسبوع، من مدن القنيطرة والرباط وتمارة والصخيرات والمحمدية والدار البيضاء والقرى المجاورة، لصلة الرحم وتبادل التهاني، فهو يستقطب يوميا المئات من المصلين الذين يحضرون حلقات الذكر والندوات العلمية، ويقيمون الصلوات الخمس وصلاة الجمعة والتراويح. الصيام الأول وما يميز الصيام الأول بسلا، بالنسبة للأطفال، هو تهييئهم بطريقة تعرف ب"تخياط النهار"، حيث يتم تحفيز الطفل لخوض هذه التجربة المتميزة التي تظل راسخة في ذاكرتهم، والتي من خلالها يتعودون على تحمل مشاق الصيام وبالتالي إنضاج مقومات شخصياتهم، لصيام الفترة الصباحية ليستكملوا يومهم بصيام الفترة الزوالية من اليوم الموالي. ومما يضفي إثارة على عادات الصيام الأول للسلاويين إلى حدود السبعينيات، إفطارهم من مائدة توضع فوق البئر، ويرتدي الطفل خلالها أبهى الثياب والحلل، أما إذا كانت طفلة فتزين وكأنها عروس تزف إلى عريسها، ثم يدعى أهل وأقارب الصائم إلى مكان الإفطار ويخرج الطفل الصائم في زيارة إلى الأهل والأقارب. "ليلة النصف" وليلة القدر بسلا العتيقة ...الليلة المباركة تتميز ليلتا النصف وليلة القدر بسلا بكونهما حدثا دينيا عظيما، فلم تكن ليلة منتصف شهر رمضان تختلف عن ليلة القدر، فبالنسبة لبعض العائلات بالمدينة القديمة يتوجه المصلون إلى المسجد لصلاة العشاء ولا يبرحونه إلا بعد أداء صلاة الصبح، حيث يتهجدون ويذكرون الله قياما وقعودا ويتلون القرآن ويتدارسونه. ففي هاتين الليلتين ترى المساجد وهي تفوح بالذكر الحكيم، يصدح بها شيوخ وشباب، وأدعية تخترق قلوب المصلين، قاسمها تفريج هم المكروبين والدعاء لأمير المؤمنين بالنصر والتمكين. رمضان بسلا الحديثة ...تعدد الثقافات وتنوع العادات وعلى غرار المدن المغربية الحديثة التي شهدت مدا حضريا كبيرا، أصبحت المدينة القديمة، كما يشير إلى ذلك عبد المجيد فنيش، غير قادرة على الحفاظ على عاداتها وتقاليدها، باستثناء محاولة بعض الأسر العريقة التي بقيت متمسكة بعاداتها، تقاوم العادات الرمضانية الدخيلة والمتعددة بتعدد الأسر المتوافدة على المدينة من مختلف جهات المملكة خلال عدة عقود، حيث استقرت بها وساهمت في إغناء ثقافة وعادات أهلها. ويضيف فنيش أن مدينة سلا، بحكم ما شهدته من تحولات سوسيو اقتصادية، أصبحت تعرف ظاهرة تنظيم المهرجانات الرمضانية والدوريات الرياضية، التي تستقطب الجماهير، كما تساهم شوارعها وساحاتها العمومية ومقاهيها الليلية في خلق متنفس لساكنتها، الذين يفضل البعض منهم التجول في الشوارع والأسواق التجارية، فيما يرتاد الآخرون المقاهي والمنتزهات.