أورد الدستور المغربي فصلين يتيمين، تطرق فيهما للجهة كجماعة محلية (الفصل 101) ونص على تخويل الاختصاصات التنفيذية فيها للعمال كممثلين للسلطات المركزية (الفصل 102). فهذه المقتضيات اليتيمة هي مجمل ما نص عليه الدستور المغربي بخصوص الجهة، وترك المجال للنصوص التشريعية لتفصل في تشكيل واختصاصات ومالية الجهات، ودورها التنموي، وكذا علاقتها بالسلطة المركزية وخضوعها كاملا لها. وإذا كانت الخطب الملكية لا تفتأ تؤكد على اعتماد نظام بديل يكون أساس التدبير التنموي مجاليا، فإن الاجتهادات السياسية والإعلامية تكاد تجمع على ضرورة التأسيس الدستوري لأي إصلاح للنظام الجهوي، دون أن تركز على ضرورة الربط بين الجهوية المتقدمة وسياق الإصلاح الدستوري، كما سقطت العديد من القراءات في الخلط بين الجهوية المتقدمة والجهوية الموسعة التي تختلف جذريا عنها شكلا ومضمونا. جهوية متقدمة أم جهوية موسعة ذهبت العديد من التحاليل، وحتى بعض مذكرات الهيآت السياسية، إلى الحديث عن أهمية اعتماد الجهوية الموسعة وعن أسسها ودورها التنموي... دون أن تنتبه إلى أن مضامين الخطب الملكية السامية تتحدث بالتحديد عن "جهوية متقدمة" وليست موسعة، والفارق بينها كبير وعميق، بل ومتناقض في بعض المجالات. فالخطاب الملكي لذكرى المسيرة الخضراء بتاريخ 6 نونبر 2008 تحدث صراحة عن "جهوية متقدمة ومتدرجة، تشمل كل مناطق المملكة، وفي مقدمتها جهة الصحراء المغربية"، وهو تأكد في الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش للسنة الماضية (30 يوليوز 2009) حيث أكد على "إقامة جهوية متقدمة..."، وجاءت نفس العبارة أيضا في الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح البرلمان في أكتوبر الماضي، وكذا خطاب تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية. فالأمر يتعلق تحديدا بجهوية متقدمة وليست موسعة، لأن الجهوية الموسعة تقوم على أساس الجهوية السياسية في إطار اللامركزية السياسية، والذي يتطلب وجود برلمان جهوي حقيقيا وحكومة جهوية، ويقتصر دور ممثل السلطة المركزية على ضمان التنسيق بين المركز والجهات، وهو نموذج شبيه بالنظام المنشود في المقترح المغربي للحكم الذاتي بأقاليمنا الجنوبية. أما الجهوية المتقدمة فيمكن تلخيصها في نظام أكثر تقدما للجهوية من النظام المطبق حاليا، بمعنى أن عملية الإصلاح يجب أن تنطلق مما هو موجود مع توسيع اختصاصات الجهات وإعادة تركيب البنيات الجهوية، وتخويل المنتخبين الاختصاصات التقريرية والتنفيذية، وإيجاد نظام يعزز الاستقلالية المالية والتدبيرية للجهات وإعادة النظر في علاقتها بالسلطات المركزية. فالفارق بين الجهويتين كبير وعميق، والحديث عن الجهوية في السياق الحالي لا بد أن يستحضر عدم الخلط بينهما، حتى لا يتفاجأ المجتمعين السياسي والإعلامي بمضمون الخلاصات والاقتراحات التي يُفترض أن تضعها اللجنة الاستشارية نهاية السنة الحالية، وهي الخلاصات التي ستثير لا محالة إعادة النظر في التركيبة الدستورية الحالية كمدخل لتنزيل مشروع الجهوية المتقدمة. فمجرد الحديث عن توسيع اختصاصات الأجهزة التقريرية والتنفيذية لمجلس الجهة يتطلب تغييرا وإضافة وتتميما لفصول الدستور، سواء كان هذا التغيير جزئيا، أو في إطار مراجعة شاملة، أو تطلب الأمر إصلاحا سياسيا ودستوريا ضمنه إصلاح النظام الجهوي. الجهوية بين التعديل الدستوري والإصلاح السياسي إذا كان مجرد الحديث عن الجهوية المتقدمة يضع معالجة نصوص الدستور كمرحلة أساسية وضرورية قبل تنزيل الأسس القانونية والمؤسساتية، فإن هذه المعالجة الدستورية تختلف في واقع الأمر حسب الأهداف والغايات منها، وحسب المقاربة المعتمدة للتعامل مع الحاجة للتعديلات الدستورية. فأي لجوء لتغييرٍ في فصول الدستور سيعيد النقاش حول الحاجة لدستور جديد عقب العشرية الأولى لحكم الملك محمد السادس، ويتناول المجال الإعلامي بكثرة إمكانية إصدار دستور جديد يسطر القواعد الكبرى للإصلاح السياسي المنشود عقب هذه الفترة، ويستشرف مرحلة سياسية قادمة، وإن بمقاربات مختلفة وخاضعة للمواقع السياسية ولآليات تغيير الدستور وعلاقة ذلك بالجهوية المتقدمة. فهل تتم مراجعة الدستور بمناسبة تنزيل مشروع الجهوية المتقدمة، أم أن المراجعة الدستورية هي مناسبة لإدراج مقتضيات تهم هذا المشروع الوطني الكبير؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي تختلف حوله القراءات وإن بأشكال مختلفة. فبالإمكان مثلا الاقتصار على تعديل لبعض فصول الدستور الحالي، وتدرج مقتضيات تهم مشروع الجهوية في إطار بنيته الحالية، وقد يطال التعديل أيضا مجالات سياسية ومؤسساتية أخرى تحتاج بدورها لتعديل دستوري (تركيبة واختصاصات مجلس المستشارين مثلا، المؤسسات القضائية...). فالتعديل الدستوري على هذا المستوى لا يقتصر بالضرورة على الجانب الشكلي، وإنما قد يشمل جوانب أعمق بكثير، ويمكن أن يعتبر بمثابة إصلاح سياسي فعلي على مستويات معينة. ويبقى السؤال هنا هل سيتم الاكتفاء بمجرد تعديل دستوري مهما كان مهما في أول خطوة من نوعها في العهد الجديد؟ أم سيتطلب الأمر إصدار دستور جديد، في سياق مراجعة شاملة، بمناسبة تنزيل مشروع الجهوية المتقدمة والحكم الذاتي. فالمراجعة الدستورية يُقصد بها إعادة ترتيب نصوص الدستور نتيجة إدراج أبواب أو فصول جديدة بكاملها، وهي آلية تتيح تخصيص باب خاص بالجهوية المتقدمة وآخر بنظام الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية مثلا، كما قد يتم بموجب ذلك إدماج أو حذف فصول أخرى تتطلبها ضرورة الإصلاح السياسي. ومراجعة الدستور قد تكون بدورها محطة مناسِبة للقيام بإصلاحات سياسية ودستورية، كما قد يكون اللجوء للإصلاح الدستوري سببا للمراجعة، من قبيل إعادة توزيع السلط بين المؤسسات لسياسية بالمملكة، أو تقوية مؤسسة الوزير الأول والسلطة التشريعية، أو حتى إعادة النظر في غرفتي البرلمان... ويندرج تطبيق نظام الجهوية المتقدمة بدوره في هذا السياق. فالإصلاح السياسي والدستوري قد يكون معنيا بالآليتين معا: التعديل أو المراجعة الدستورية، والمفاضلة بينهما تبقى في واقع الأمر مسألة سياسية بحتة، إما في التقدير السياسي باللجوء للتعديل الدستوري كوسيلة آنية لتنزيل مقتضيات دستورية تهم الجهوية المتقدمة، أو تزامن إعادة النظر في المؤسسات السياسية والدستورية مع التأسيس الدستوري للجهوية المتقدمة وإفراد باب خاص أيضا لنظام الحكم الذاتي بالأقاليم الجنوبية. وعلى هذا الأساس يعتبر اللجوء للمراجعة الدستورية مناسبة لتنزيل الجهوية المتقدمة، لكنه يُفترض أن يطال مختلف عناصر الإصلاح السياسي، على اعتبار أن عملية المراجعة أو الإصلاح ستعطي الانطباع بأن الأمر يتعلق باعتماد دستور جديد "لعهد محمد السادس". فالجهوية المتقدمة، كورش وطني كبير، قد يكون مناسبة لترتيب عناصر الإصلاح السياسي وتحديد مجالاته وتنزيلها دستوريا ومؤسساتيا، كما قد يكون فقط مرحلة سياسية في انتظار استكمال عناصر الإصلاح السياسي المنشود ومن ضمنه إعادة النظر في التنظيم الإداري واللامركزي للمملكة. [email protected] *متخصص في الشأن المحلي والتنمية الجهوية