في خطوة تحمل العديد من المؤشرات المستقبلية حول الأوضاع السياسية في الشيشان أعلن دوكو عمروف قائد المقاومة في القوقاز تقاعدَه رسميًّا لأسباب صحية وتعيين خليفته الشاب أصلان بيك فادالوف قائدًا جديدًا ليقود المجاهدين ضد الاحتلال الروسي في المرحلة المقبلة.. الأمر الذي وصفتْه صحيفة (التليجراف) بأنه دليلٌ على استعداد المجاهدين الشيشان لجولة جديدة من المقاومة ضد الاحتلال الروسي الذي أعلن مطلع 2010 انتهاء عملياته العسكرية في الشيشان في إشارة لسيطرته التامة على الأوضاع في الإقليم، إلا أن مخططَه قد فشل بعد تفجيرات مترو موسكو في مارس 2010. ووجَّه القائد المتقاعد دعوة إلى مسئولي المجاهدين في داغستان وأنجوشيا والشيشان كلها، يدعوهم فيها إلى دعم اختيارِه ودعم القائد الجديد، بعد أن اتَّخذ قرار التنحِّي بالإجماع في اجتماع بالقادة الميدانيين بالشيشان قبل أيام، مضيفًا أن الجهاد يجب أن يقودَه مجاهدون شباب ونَشِطون أكثر. القيادة الجديدة ويعدّ القائد الجديد فدالوف من قُدماء المقاتلين خلال الحرب الأولى التي شنَّها الروس على الشيشان (1994-1996)، وحارب خلال الحرب الثانية التي أعلنها فلاديمير بوتين سنة 1999 إلى جانب "القائد الخطاب"، زعيم المقاومة الذي استُشهد سنة 2002، ثم تمَّ تعيينه قائدًا ل "قاطع جدرميز" للقوات المسلَّحة لجمهورية إيشكيريا الشيشانية. جاء قرار عمروف متوافقًا مع تطورات الواقع الميداني في محاولة من المقاومة الشيشانيَّة لتأكيد ثباتِها على استراتيجيتها، ومواصلة عملياتها المؤثِّرة ضد المحتل الروسي، وبعد قراءة لتطورات الواقع الإقليمي والدولي، خاصة بعدما صنفت الخارجية الأمريكية عمروف على أنه –كما تدعي- "إرهابي" في خطوة من المرجَّح أن ترضي الكرملين وتساعد في "إعادة ضبط" العلاقات مع البيت الأبيض بعد العلاقات الفاترة مع الإدارة الأمريكية السابقة. وقد تولَّى دوكو عمروف قيادة حركة المقاومة ضد الاحتلال الروسي سنة 2006 بعد استشهاد سلَفِه عبد الخالد سعيد اللهييف في عملية عسكرية، وكان يعتبر مقرَّبًا من الحركة الإسلامية بزعامة شامل باساييف الذي استُشهد سنة 2006. ويأتي تنحي عمروف بعد تثبيت استراتيجية عملياتية للمقاومة تستهدف إرهاق العدو الروسي سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، ومن ضمنِها سلسلة العمليات النوعيَّة خلال الفترة الأخيرة؛ سقوط رتل من القوات المسلحة الروسية يوم السبت 31/7 الماضي في كمين بمنطقة جبلية بداغستان، وتعطّل تقدمه إثر انفجار عبوة، ثم تعرضت القوة إلى هجوم بالأسلحة الرشاشة استمرَّ ساعتين، وأسفر الهجوم عن سقوط 12 جريحًا في صفوف قوات الاحتلال الروسية، كما هاجم عدد من المقاومين محطة كهرومائية ودمروها في 21 يوليو الماضي، بعد زَرْع قنابل في جمهورية قبردينو بلقاريا في لقوقاز المحتل أيضًا، وكان عمروف قد أعلن مسئوليتَه عن سلسلة من الهجمات التي وقعت في الشهور الماضية منها تفجير في مترو موسكو يوم 29 مارس، والذي أسفر عن مقتل 40 شخصًا على الأقل وإصابة 100 آخرين. بين المقاومة والإعلام يذهبُ بعض المحللين إلى أن المقاومة الشيشانية بصفة عامة قد تراجعت وخفت صوتها ميدانيًّا، إلا أن الواقع الدولي هو ما فرَضَ على عموم القضية ذلك الخفوت، أو إن شئنا تسميته التراجع.. حيث وقعت الشيشان في دوَّامة عصيبة من تقاطع المصالح الغربية الروسية، فطفت على السطح قضايا أكثر أهمية بالنسبة للعالم الغربي، منها الغزو الروسي لجورجيا وقضية البرنامج النووي الإيراني، وما تَلَاه من تصاعُد الحديث عن الدرْع الصاروخي، وهو ما أدخل منطقة روسيا والقوقاز ومعها إيران ضمن لعبة أكبر من الحرب على الشيشان، وهي لعبة المساومة الأمريكية الروسية على الدرْع الصاروخي وعقد صفقة تقتضي إطلاق يد روسيا في القوقاز وجورجيا، مقابل عدم تطوير روسيا لمنظومة الصواريخ الإيرانية، وعدم مدّ يد العون لها في برنامجها النووي، وكذلك عدم دعمِها في مجلس الأمن. وقد أدَّتْ لعبة المصالح الروسية الغربية إلى أن غضّ الغرب الطرف عن الشيشان وما يحدث فيه من انتهاكاتٍ يومية لحقوق الإنسان، بل دخلتْ وسائل الإعلام الغربية في حالة من التعتيم الإعلامي على أخبار الشيشان، ولم تعُدْ أخبارها تسيل لعاب صانعي السياسة الغربية، بعد أن ضحّوا بها وبحقوق الإنسان من أجل عَقْد صفقات أمنية واقتصادية مع روسيا، ذلك البلد الذي تعتمد عليه دول الاتحاد الأوروبي في ضَخّ الغاز إليه، بالإضافة إلى دخوله في لعبة التوازنات السياسية بعد الغزو الأمريكي للعراق، وانتعاشته الاقتصادية بعد أن ارتفعت أسعار النفط في الفترة الأخيرة ونعمتْ روسيا بفوائضه المالية التي انتشلته من عثرته الاقتصادية. واقع المقاومة الميداني رغم الصمت العالمي إزاء القضية الشيشانية وما تُخفيه الآلة الإعلامية الشيوعية من انتهاكاتٍ صارخة بحق الشعب الشيشاني المسلم بغطاء من حكومات موالية لروسيا لا تملك سوى آلات تشويه الواقع والتأمين على الانتهاكات الروسية، مما أفقد الشيشانيين أكثر من أربعة آلاف شخص اختفوا في الشيشان في السنوات العشرة الماضية، وفق تقرير حقوق أوروبي، وما كشفه تقرير مجلس أوروبا لحقوق الإنسان من أن السلطات الشيشانية اكتشفت 60 مقبرة جماعية تحتوي على ثلاثة آلاف جثة مجهولة الهوِيَّة بجانب نحو 100 ألف ضحية آخرين ومئات الآلاف من المشرَّدِين في أنحاء المعمورة، رغم ذلك الواقع المرير إلا أن المقاومة الشيشانية خلال الفترة الأخيرة فرضتْ واقعًا استراتيجيًّا مغايرًا، خرجتْ بموجَبِه من الحيِّز الداخلي الضيِّق إلى حيز إقليمي أرحب وأوسع، لتشمل عمليات ليست فقط في الشيشان، وإنما أيضًا أنجوشيا وداغستان وروسيا نفسها، ومن تلك العمليات النوعية الدالة على استراتيجية المقاومة الشيشانية: - اغتيال مساعد نائب رئيس الوزراء الشيشاني موسوست خوتيف. - اغتيال وزير داخلية داغستان عادلغيري محمد طاهروف، الموالي لروسيا. - اغتيال نائبة رئيس المحكمة العليا في أنجوشيا أزا غازغيرييفا. - بجانب العديد من التفجيرات التي استهدفت القوات الروسية في ضواحي إقليم شالي الجبلي شرق جورزني. - الانفجار الضخْم الذي ضرب المقرّ العام للشرطة في العاصمة الأنجوشية، مما استدعى قيام الرئيس الروسي بإقالة وزير الداخلية في أنجوشيا.. وغيرها من العمليات النوعيَّة التي أعادت التوازن للمعادلة السياسية في القوقاز، مما أَلْجأ روسيا لاستخدام أوراق أخرى من تصنيفات غربية للمقاومين ووضعهم في القوائم السوداء التي تسميها "الإرهابية". ومع تغيير القيادة الجديدة للمقاوَمَة الشيشانية التي تبدو أكثر حيوية من المنتظَر أن تتصاعدَ عملياتُها لاستكمال المسيرة التي بدأها دوكوف بإعلانه قبل ثلاثة أعوام قيام إمارَة القوقاز الإسلامية والتي هي الشيشان وداغستان وأنجوشيا، وأوسيتيا، والمناطق المجاورة من جمهوريات كبارديا، وبلكاريا، والتي حُدِّدت أهدافها في: - جعل القوقاز دار إسلام، وإقامة الشريعة الإسلامية في جميع أنحاء الأرض وطَرْد المحتلين. - بعد طرد الاحتلال، يجب استعادة جميع الأراضي التاريخية للمسلمين. وتراهن المقاومةُ الشيشانية بقيادتها الجديدة على الواقع المجتمعي الشيشاني الذي أصبح يُعاني حالة حِنْق من سياسات الرئيس رمضان قديروف (رجل موسكو في الشيشان)، المتمثِّلة في تزايد عمليات الخَطْف وانتشار الفساد في ربوع المؤسسات الحاكمة دون أية مساءلة، والذي أعاق عمليات إعادة إعمار ما دمرَتْه الحروب المتتالية في البلاد، وكانت محصلة ذلك هي افتقاد معظم الشيشانيين للخدمات والمرافق الأساسية، بجانب محاربتِه للمنظَّمَات الحقوقية العاملة بالإقليم، وكان آخرها منظمة "ميموريال" المعنِيَّة بحقوق الإنسان التي وصفها قديروف بأنهم "أعداء الشعب والشرعية والدولة" في حديث ملتفز في 3 يوليو الماضي. تحديات روسيَّة أم مشروع المقاومة تتواجَهُ المقاومة الشيشانية الساعية لنَيْل استقلال الإقليم المسلم بالعديد من التحديات الاستراتيجية التي تفرضُها السياسة الروسية الثابتة إزاء الأقاليم الحيوية التي تعتبرُها فضاءها الاستراتيجي كالشيشان، حيث تعتبر السياسة الروسية أن استقلال الشيشان سيكون ذلك مشجِّعًا وسيفتح شهية الجمهوريات الأخرى المنضوية في الاتحاد الروسي وتقطنها غالبية غير روسية. كما أنه في ضوء الضعف الروسي الداخلي، خاصةً في الناحية الاقتصادية وغيرها يجعل من استقلال الشيشان بمثابة ضربة قاضية لكرامتها وهيبتها الدولية، في الوقت الذي تحاول فيه موسكو بعث الدور السوفيتي السابق على المسرح الدولي من جديد. ومن أبرز محددات السياسة الروسية التي تعرقل نَيْل الشيشانيين حقوقهم؛ معضلة من سيملأ الفراغ في حال الاستقلال؟؟ وهنا تخشى روسيا من الدور الأمريكي وحلف شمال الأطلنطي (الناتو) الذي من المتوَقَّع أنه سيستغلُّ هذا الوضع ويملأ الفراغ في هذه الدول ويحيطها بقواعد وترسانة عسكرية، مما يشكِّل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الروسي. وفي الإطار نفسه تقف مسارات خطوط نقل النفط والغاز المستخْرَج من بحر قزوين إلى أوروبا، وكذلك خطوط التجارة العالمية الممتدة من الهند إلى أوروبا عبر تلك المنطقة الاستراتيجية عائقًا أمام إمكانية تغيير الأوضاع القائمة في الشيشان لصالح الحق بالاستقلال.. كما أن المواقف الغربية إزاء الصراع الروسي في الشيشان قد تبايَنَت في الفترات الأخيرة واختلفت بصورة كبيرة، فبعدما أبدى الغرب نهاية التسعينات تعاطفًا مع المقاومة الشيشانية وتأكيده على مبدأ حق تقرير المصير، اتخذ موقفُه منحًى آخر بعد أحداث سبتمبر 2001، واستراتيجية الحرب على الإرهاب، والخَوْف من المدّ الإسلامي في منطقة آسيا الوسطى، فأكَّد على أن القضية روسيَّة داخليَّة، وأن من حقّ موسكو الدفاع عن وحدة أراضيها.. الأمر الذي أَفْقدَ المقاومة الشيشانية كثيرًا من معطيات القوة، مما انعكس سلبًا عليها وغيّبت مطالبها وحقوقها المشروعَة عالميًّا. تلك التحديات تفرض على المقاومة الشيشانية تفعيل أدوارِها السياسية والإعلامية والاجتماعية بجانب العسكرية؛ للخروج بالقضية الشيشانية نحو المحافِل الدولية مجددًا، لكسْرِ حاجز الصمت الذي تفرضُه روسيا على شعوب القوقاز وقضاياه المستحَقَّة.. وما يتطلبه ذلك من إيجاد قنوات تواصُل مع العالم الإسلامي والمنَظَّمات الحقوقية الدولية. رؤية مستقبليَّة تفرِضُ مرارات الصراع الروسي الغاشم ومجازره بحق الشيشانيين وكل الشعوب القوقازية المطالِبَة بحقوقِها المشروعة المقاومةَ والعمل العسكري حتى التحرير والاستقلال، ولعلَّ قدرة المقاومة الشيشانية على التعامل مع السياسات الروسية بكفاءة عالية تمكِّن القيادة الجديدة من تفعيل مشروع المقاومة واستثمار القيادات الجهادية، سواء الشيشانية أو غير الشيشانية التي تنتشرُ بمواقع عدة في الجمهوريات الروسية، بعد فرض كثير من التضييق عليها في مناطق آسيا المتوتِّرَة كباكستان وأفغانستان.. كما أن استمرارَ النَّهْج الروسي القسري يعزِّز من فُرَص التفاف الشعوب القوقازية حول مشروع المقاومة، بعد فشل القيادات الروسية في تضليل الشعوب المقهورة في القوقاز، والذين فقدوا نحو نصف مليون شخص جرَّاء السياسات الروسية التي تلاعبتْ بالشعوب القوقازيَّة على مرِّ العصور القيصرية والشيوعية.. وذلك بالرغم من محاولات روسيا التقرُّب من العالم الإسلامي واستضافة فصائل إسلامية لتحسين صورتِها والاستفادة من اختلال العلاقات الأمريكية الإسلامية في الفترة الأخيرة.. سياسيًّا.. المنطق والتاريخ يؤكِّدان أن روسيا لن تنجحَ في تصفية القضية، على الرغم من وجود تواطؤ دولي معها بشكلٍ أتاح لها التصرُّف بحريَّة في الملف الشيشاني، ولكن هذا الأمرَ لن يساهم في انهيار المقاومة الشيشانية، وإن كان سيضعفُها، كما أن الغرب –بحسب مؤسَّسَات غربية- لن يقبل بانهيار هذه المقاومة لاستخدامها من وقت لآخر شوكةً في الحلق الروسي، فروسيا تُدركُ جيدًا استحالة حَسْم الصراع في الشيشان بالقوة المسلَّحَة، وأنها ستضطرُّ في النهاية إلى تسويته سلميًّا، ولكنها تريد أن تفرض صيغة للتسوية تتوافق مع مصالحها الإقليمية، وقد كشفتْ جولاتُ الصراع الماضية ومحاولات تسويته أن الشروط الروسية لحلّ مشكلة الشيشان تتمثَّل بالأساس في إيقاف عمليات المقاومة ونزع سلاح الفصائل الشيشانية، أما الجانب الشيشاني فيصِرُّ على تنفيذ شرطه الوحيد لتحقيق السلام وإيقاف العمليات الحربية، والذي طالما عبَّر عنه القادة الشيشانيون، وهو أن تكون المفاوضات على أساس المعاهدة التي وقَّعها الرئيسان مسخادوف ويلتسين، وأدت إلى خروج القوات الروسية من جمهورية الشيشان، مع ضرورة تواجُد مراقبين دوليين من الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبية وغيرهما من الهيئات الدولية. وإلى أن يتحقق حلم المقاومة الشيشانية بقيام دولة مستقلَّة وتحرير القوقاز من السطوة الروسية، تبقى القيادة الجديدة مطالبةً بإيجاد دعْم سياسي وعسكري حقيقي، حتى ترتقي لمستوى حركة ينتجُ عنها تشكيل دولة مستقلَّة، وعليها كتابة أجندة سياسية واضحة المعالم، تستغِلُّ العداءات الدولية للتواصل مع القوى الأكبر في صف المواجهة لعدوها، بالإضافة إلى تحرُّك إعلامي وسياسي واعٍ، يُكسبها التأييد الدولي.. الصمتُ الإسلامي لماذا؟ الملفتُ للنظر في هذه القضية هو الصمت العربي والإسلامي، وكأن القضية لا تمتُّ لنا بصلة ونسينا أنها دولة إسلامية تحتاج منا الدعم والمساندة في صراعها مع موسكو، فهل يُعقل أن يتم مناقشة استقلال الشيشان في البرلمان الأوروبي مرات عديدة، في الوقت الذي لم نسمعْ فيه كلمة الشيشان في أي مؤتمر أو لقاء ضمن ملايين اللقاءات والمؤتمرات التي تُجرى يوميًّا في عالمنا العربي والإسلامي!! إن هذا التجاهل يثير العديد من علامات التعجب والدهشة!!