تبدّلت ملامح عمر فجأة عندما هاتفته نجاة وطلبت لقاءه فورا بسبب "طارئ هام". الشاب الذي كان قبل قليل مرحا ينتقل بنشاط بين زبائن المقهى الذي يشتغل به كنادل، سرعان ما شحُب وجهه وتسربت إليه علامات القلق والتوتر والارتباك.. وما إن أقفل الخط مع محدثته حتى خلع وزرة العمل وطلب من رئيسه أن يمنحه نصف ساعة... في الغرفة التي اعتاد عمر ونجاة أن يلتقيا فيها منذ تعرفا على بعضهما البعض قبل شهرين، لم يكن لقاؤه بها هذه المرة بذلك الحماس الذي كان يخالجه قبل وأثناء ملاقاتها فيما مضى من الأيام، بل بدا خائفا، متردد الخطوات، وكأنه مُقبل على مصير مجهول. الورطة عندما سألها عن الطارئ الهام الذي استدعته من أجله ارتبكت نجاة، التي لم تكن ملامح وجهها هي الأخرى تُبشّر بخير، وتلعثم لسانها ولم تدر من أين تبدأ الكلام. صمتت لبرهة ثم ما لبثت أن استجمعت قواها فأغمضت عينيها وألقت بجملة اهتزت لها مشاعر عمر كما لو رمته بقنبلة: "أنا حامل..". كان الخبر صادما بالنسبة إليه. تسمّر في مكانه فاغرا فاه مُحدقا في عيني صاحبته من شدة هول ما سمع. لكن نجاة، التي كانت قبل قليل تُتعتع في الكلام، عدلت جلستها وشرعت تحكي لعمر الذي لم يصدق بعد ما سمعه، أنها أجرت اختبار الحمل، بعد تأخر العادة الشهرية عن موعدها، وجاءت النتيجة إيجابية.. ودون أن تترك لعمر مجالا للتفكير غيرت من نبرة صوتها وخاطبته بلهجة حادة قائلة: "ودابا يا ولد الناس.. خاصك تتزوج بيا وتستر عيبي!". هنا اشتد خوف عمر وتوتره، فالشاب الذي كان يبحث فقط عن متعة عابرة وجد نفسه متورطا في حمل غير مرغوب فيه، ومع من؟ مع فتاة لا يعرف عنها غير اسمها ورقم هاتفها. إنها مشكلة عويصة بالنسبة إلى شاب متهور مثل عمر (23 سنة) الذي لم يكن يكترث لعواقب مثل هذه العلاقات غير محسوبة العواقب. في تلك الأثناء كان عمر غارقا في التفكير يحاول إيجاد حل يُصلح به غلطته، لكنه كلما فكر في حل إلا ووجد أمامه حاجزا يتمثل في العائق المادي، كيف لا، وهو لا يكاد يملك سوى قوت يومه؟ الشابة ابنة الدارالبيضاء ذات الجسد الممشوق، كانت وديعة ولطيفة مع عمر، لكنها سرعان ما كشّرت عن أنيابها وكشفت عن مخالبها وبدأت تهدده بفضحه وجرجرته أمام المحاكم إذا فكر في التخلي عنها في ورطة هذا الحمل غير المنتظر، لكن اليأس ما فتئ أن تسرب إلى قلبها لما تأكدت من أن عمر لا يستطيع أن يقترن بها ويتكفل بما تحمله في أحشائها، بسبب عجزه المادي، هو الذي قدم إلى الدارالبيضاء من الجنوب من أجل الكد والعمل لإعالة والديه وإخوته الأربعة.. كل هذا دفع الفتاة العاملة بأحد المطاعم الشعبية وسط البيضاء إلى التنازل، مرغمة، عن مطلبها الأول، حيث ما لبثت أن استطردت قائلة وهي تشيح بوجهها عنه وتوليه ظهرها: "إيوا إيلا ماقادش بيا، خاصك تعاوني باش نطيّح هادشي لي فكرشي.." وبقدر ما فوجئ عمر بكلامها هذا، نزل مقترحها على صدره بردا وسلاما.. لقد خفف عنه ما كان يثقل كاهله من همّ وغم... "جمافو" عبثا حاول رفاق عمر الثلاثة في الغرفة، التي يكترونها بأحد أحياء وسط الدارالبيضاء، إقناعه بالعدول عن فكرة مساعدة نجاة على الإجهاض، واقترحوا عليه إنكار أية علاقة تربطه بها اتقاء الوقوع في الفخ.. لكنه لم يكترث لكلام أصدقائه وصمم على تدبر المبلغ الذي سينقذه –في نظره- من تلك الورطة. "جمافو.. ملّي جات غير في الفلوس ماشي مشكل.. نعطيها الفلوس باش تفك الجّرة وتبعّد عليا.."، هذا ما كان يردده عمر لكي يبرر لأصدقائه سبب تلبيته لطلب نجاة المادي. ألفا درهم هو المبلغ الذي استطاع اقتراضه من لدن أصدقائه في تلك الليلة التي لم ير أحلك منها في حياته. صباح اليوم الموالي كان لزاما عليه ملاقاة الفتاة، كما كان متفقا عليه، من أجل بدء البحث عمن سيخلصهما من الوافد الجديد الذي لا يرغبان فيه. عندما سلمها المبلغ المطلوب، رفع عمر كلتا يديه إلى الأعلى معلنا انتهاء دوره عند ذلك الحد، لكنه لم يكد يتمم كلامه حتى علا صوت نجاة مهددة إياه بأنه سيندم إذا لم يرافقها حتى النهاية.. فلم يجد بُدا من أن يرضخ لإرادتها خوفا من تهديداتها له وصراخها الذي شوّه معظم معالم وجهها الفتان.. كما لم يجد حرجا في مصارحتها بأنه سيرافقها بالرغم من كونه لا يفقه أي شيء في هذا المجال، فأومأت إليه بأنها ستتدبر أمرها بنفسها... الطّابو كانت نجاة (24 سنة، ابنة حي شعبي بمقاطعة سيدي عثمان)، رغم هواجسها تعتقد أنه لا فرق بين الإجهاض الطبي والتقليدي ما دامت كلتا الطريقتين تؤديان إلى نفس النتيجة. ربما لم يساعدها مستواها الثقافي البسيط على استيعاب الفرق بين العمليتين وخطورة تسليم نفسها إلى مشعوذة أو شخص لا يعرف عن الطب شيئا، لكن، حتى بعد تدخل إحدى صديقاتها المقربات، مُحاولة إقناعها بخطورة الإجهاض التقليدي على حياتها، بدت نجاة وكأنها غير مكترثة بل أصرت على الالتجاء إلى إحدى القابلات التقليديات بدعوى أنه لا قدرة لها على طرق أبواب الأطباء... وبالرغم من أن هذا الموضوع لا يزال يشكل "طابوها" في المجتمع المغربي الذي يعتبر الإقدام على الإجهاض وصمة عار كبرى، ولا يسمح به دينيا وقانونيا واجتماعيا إلا في ظروف محدودة للغاية، فإن صديقة نجاة كسرت القيود التي يحيطها المجتمع بهذا الموضوع وأسرّت لرفيقة دربها بأنها مرت من تجربة مماثلة حينما كان عمرها 22 سنة، وأنها خرجت من تلك المغامرة سالمة دون أن يُفتضح أمرها.. هكذا استطاعت إقناع نجاة التي غيرت وجهتها من البحث عن كوخ قابلة تقليدية إلى البحث عن عيادة طبيب يخلصها مما تحمله بين أحشائها بأقل الخسائر. الوسيط بعد بضعة أيام، مرت على عمر وكأنها سنين، اتصلت نجاة أخيرا لتبلغه باليوم الموعود لإجراء العملية. كنا خمسة: عمر، نجاة وصديقتها ليلى، بالإضافة إلى شاب اسمه رشيد، وهو صديق عمر الذي تكلف بنقلنا على متن سيارته و"أخبار اليوم" التي تابعت الحكاية من أولها إلى آخرها. رحلتنا انطلقت في البداية صوب مركز تجاري بحي القريعة، بعدما أخبرتنا ليلى بأنها أجرت هناك عملية إجهاض قبل 4 سنوات لدى طبيب مختص في أمراض النساء. حالة نجاة يومها لم تكن بأحسن من عمر، الذي اصفرّ وجهه وتسارعت دقات قلبه من شدة خوفه من خوض تلك المغامرة التي لا يعرف عواقبها. ما إن بلغنا المكان حتى أُصبنا جميعا بخيبة أمل كبيرة، إذ لم نعثر على ضالتنا. فعندما استفسرنا عن الطبيب الفلاني قيل لنا إنه رحل إلى مدينة المحمدية "بعد افتضاح أمره"... ضربت نجاة بقوة بقبضة يدها اليمنى على كف يسراها معبرة عن غضبها من "النحس" الذي يلازمها على حد قولها، وهمّت بنتف شعرها المنسدل على صدرها البارز لولا أن صديقتها ليلى ربتت على كتفها طالبة منها ألا تقلق لأن "ربي ما كيسد باب حتى كيفتح بيبان.." وفي الوقت الذي طأطأ الجميع رأسه يفكرون في مخرج بديل، اندفع السائق رشيد مقترحا الاتصال بأحد أصدقائه الذي يعمل بإحدى مستشفيات العاصمة الاقتصادية من أجل استفساره حول الموضوع، وهو ما تم فعلا. ما إن أبلغه رشيد بالمطلوب حتى أبدى الصديق استعداده لإرشادنا إلى طبيب مختص، لكنه اشترط مقابل ذلك مبلغا من المال، فما كان من عمر إلا أن وافق على منح هذا الصديق، الذي تبين فيما بعد أنه ليس سوى سمسار في هذا الميدان، مبلغ 200 درهم نظير وساطته. عيادات سوداء كانت الوجهة هذه المرة صوب شارع معروف وسط المدينة المليونية. صعدنا أربعتنا خلف الوسيط الذي أخذنا إلى الطابق الثالث من إحدى العمارات، تاركين وراءنا رشيد ينتظر داخل سيارته. هناك، داخل العيادة، فوجئنا بعدد كبير من النساء والفتيات اللواتي كن ينتظرن دورهن ليدخلن لدى الطبيب الذي تشير اللافتة المعلقة على باب عيادته إلى أنه مختص في أمراض النساء والتوليد. انضمت نجاة وصاحبتها ليلى إلى ذلك الطابور الكبير من النساء. أما عمر و"أخبار اليوم" فقد منعتنا موظفة الاستقبال من دخول غرفة الانتظار، بمبرر أن المكان مخصص للنساء فقط، وأشارت علينا بالانتظار قرب باب العيادة.. وأما الوسيط فلم يكن معنيا بهذا الاستثناء بل توجه نحو الموظفة وهمس في أذنها طالبا منها حضور الدكتور لأمر هام. بعد هنيهة ظهر الطبيب ذو الشعر ناصع البياض مثل لون البذلة التي يرتديها، متخطيا تلك الصفوف الطويلة المتراصة أمام باب غرفته، متجها صوب مكتب الاستقبال حيث يقف الوسيط في انتظاره. من خلال طريقة حديثهما، بدا واضحا أنهما يعرفان بعضهما. تبادلا الحديث همسا بينما كان الوسيط يشير بيده نحو الفتاة وكأنه يوصي الدكتور بها.. بعد مدة قصيرة عاد الطبيب إلى غرفته وانصرف الوسيط إلى حال سبيله، بعد أن أبلغنا بأن كل شيء سيتم على ما يرام، فقط علينا انتظار دورنا. مساومة بعد حوالي 4 ساعات من الانتظار، حل دورنا أخيرا، أقصد دور نجاة التي تعبت من التردد على المرحاض نتيجة ارتباكها. دخلت الفتاتان عند الطبيب. وبعد دقائق، خرجت ليلى عندنا لتبلغنا بأنه يطلب مبلغ 3 آلاف درهم من أجل إجراء العملية.. وكان عمر يهمُّ بقول شيء ما لولا أنها قاطعته قائلة: "إن الدكتور أجرى فحصا على الجنين فوجده في مراحل متقدمة من تكوّنه".. لكن عمر حثّ ليلى على ضرورة استعطاف وتوسل الدكتور من أجل أن يخفض الثمن إلى ألفي درهم، وهو كل ما استطاع أن يتدبره. مكثت ليلى برهة ثم عادت رفقة نجاة والخيبة تعلو محياهما، لتخبرانا بأن الطبيب رفض إجراء العملية بأقل من 3 آلاف درهم. وهكذا انصرف كل منا إلى حال سبيله. الجريمة بعد مرور أيام، علمت "أخبار اليوم" أن نجاة أجرت، بمساعدة صاحبتها ليلى، عملية الإجهاض في عيادة أخرى بنفس المبلغ الذي كان في حوزتها. ويحكي الشاب عمر أن الطبيب الذي أجرى العملية، لم يستفسر الفتاة عن سبب لجوئها إلى الإجهاض ولا إن كانت فعلت ذلك بموافقة "والد" الجنين.. وأضاف أنه بعد أن أجرى الفحوصات الضرورية على الجنين المراد إعدامه، طفق يُحدث نجاة عن الوسيلة التي سيستخدمها في العملية، وهي طريقة الإجهاض الدوائي. "إنه إجهاض يتم باستخدام عقار يتسبب في انقباض الرحم لإفراغه من الجنين والأنسجة الأخرى المحيطة به"، هكذا فسر لها كيفية وقوع العملية. وما إن زرع حبتين من العقار (الذي نتحفظ عن ذكر اسمه) داخل رحمها عن طريق المِهبل، حتى أمرها بالانصراف إلى بيتها، منبها إياها إلى أن تترقب حدوث نزيف عشية نفس اليوم، مؤكدا على ضرورة العودة إليه في حالة حدوث طارئ مفاجئ... وفي مساء نفس اليوم، تعرضت نجاة لنزيف مهبلي حاد استدعى نقلها إلى مستشفى مولاي يوسف من أجل إسعافها.. وقضت ليلة كاملة هناك دون أن يكتشف أفراد عائلتها سر الجريمة التي اقترفتها ابنتهم! ويفسر مصدر طبي مختص ما تعرضت له نجاة عقب أخذها للعقار المسبب للإجهاض، بكون ذلك الدواء يعمل على حث الرحم على الانقباض وإفراغ ما يحتويه. وأضاف الطبيب المختص الذي رفض الكشف عن اسمه (..)، في تصريح ل"أخبار اليوم"، أن غالبية النساء يحصل لديهن نزيف لمدة حوالي 13 يوما بعد تناول الدواء المشار إليه، في حين يستمر لدى بعضهن نزيف خفيف أو تنقيط دم لبضعة أسابيع. واستنادا لنفس المصدر فإن غالبية النساء تشعرن كما لو أن الأمر أشبه بالدورة الشهرية ذات آلام المغص الشديد، مع إسهال وألم في المعدة. معتبرا هذه الأعراض طبيعية، لكنه حث على ضرورة مراجعة الطبيب فيما لو حصل نزيف يتطلب تغيير الفوطة النسائية أكثر من مرتين في خلال الساعة الواحدة، أو حصول ارتفاع في درجة حرارة الجسم بما يفوق درجة 37.8 درجة مئوية لأكثر من أربع ساعات، أو استمرار الألم بالرغم من تناول بعض المسكنات. أما عمر فإنه لم يعد يستطيع ملاقاة الفتاة التي كان يوهم نفسه بأنه يحبها، واعتبر هذه التجربة التي قلبت موازين حياته على حد قوله، ساهمت أيضا في تعقله وإعادة الرشد إليه، حيث أقسم بألا يربط أية علاقة مع فتاة إلا في الحلال. من جهتها، عبرت نجاة عن شعورها بالذنب لما اقترفته في حق جنينها، وقالت إنها تعذبت كثيرا بسبب مضاعفات العملية التي خضعت لها. لكنها سرعان ما استطردت متسائلة: "ولكن أي خيار لدي سوى أن أجهض؟ لا أحد سيساعدني على إنجاب مولود غير شرعي، بل سيطردني أهلي من البيت وسأصبح أنا والجنين عرضة للتشرد والضياع..". *عن جريدة أخبار اليوم