بعد الصمت الطويل الذي دام قرابة ثلاث سنوات على الحصار الظالم على غزة ، والذي ساهم فيه كل الجيران الذين تجمعهم أواصر كثيرة مع الشعب الفلسطيني اقلها أصرة اللغة والدين والتي لم تشفع لحوالي مليونين من البشر في أن تكفل لهم الحد الأدنى من متطلبات الحياة اقلها الدواء والغذاء ، وحتى المليارات التي التزم بها الرؤساء العرب لبناء ما تم تدميره لم يصل منها أي فلس ، والمجتمع الدولي بأممه المتحدة لم يفعل أي شيء يذكر إلى حد اليوم لفك عزلة الفلسطينيين . وبعد أن فقد الأمل في الجهود العربية الرسمية وفي جهود المجتمع الدولي أيضا ،خرج أحرار العالم بأفكارهم الخلاقة بتسيير قوافل لكسر الحصار ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته ،فكانت القافلة الأولى والثانية بزعامة النائب البريطاني جورج غالوي الذي منعه النظام المصري من الدخول إلى مصر في محاولة لثنيه عن إيقاف مسلسل التضامن مع الفلسطينيين ، لكن ما لم يكن يعلمه النظام المصري وأعوانه أن المتضامنون سيطورون طريقة تضامنهم لترقى إلى تسيير أسطول بحري كبير يضم العشرات من السفن الكبيرة والتي لن تحمل فقط بعض الأدوية وتكتسي طابعا رمزيا فقط ، بل تعداه ليكون الهدف حمل مواد بناء وغذاء بكميات كبيرة هدفها العام كسر الحصار وفرض أمر واقع كما فرضت إسرائيل الحصار كأمر واقع . لكنه كما كان متوقعا وفي خرق سافر للقانون الدولي وكل الأعراف الإنسانية وبدم بارد ارتكب الصهاينة المتطرفون مجزرتهم البشعة ،وقتلوا أبرياء ليسوا من حماس ولا من حزب الله وبعضهم ليس حتى مسلما ،وهكذا يثبت هذا الكيان للعالم مدى التزامه بحقوق الإنسان ويؤكد طبيعته الإجرامية والعنصرية في أقصى حدودها ،ويثبت أيضا للمروجين للتطبيع مع هذا الكيان أن ما يريدون إقناعنا به من ديمقراطيته تنفذه الوقائع ولا يحتاج إلى برهان . ويأتي منع الأسطول التضامني من الوصول إلى غزة في الوقت الذي يتشكل فيه رأي عام عالمي معاذ للكيان الغاصب بشكل كبير في أوربا وباقي دول العالم .ورغم أن رد مجلس الأمن لم يكن في المستوى المطلوب نظرا للرفض الأمريكي، كما جرت العادة ،لتبني قرار إدانة، فان المنظمين عازمون على مواصلة تسيير قوافل إغاثة حتى يتم رفع الحصار . كما أن تركيا الدولة التي نالت شرف اكبر عدد من الشهداء فان ردها ليس معروفا ولا شك ستتأثر منه العلاقات الثنائية وستخسر الدولة العبرية الكثير من الامتيازات التي كانت تحظى بها في تركيا . ولاشك أن التصرف الصهيوني كان هدفه هو ثني المتضامنين على المغامرة مرة أخرى بحياتهم من خلال اعتماد منهج التصفية الجسدية كحل، خاصة أمام الشخصيات الدولية المرموقة التي تنوي القدوم إلى غزة أمثال محمد مهاتير وغيرهم ، كما أن كسر الحصار دون إجبار حماس على التوقيع على ورقة المصالحة الوطنية واعترافها بإسرائيل وتخليص جلعاد شاليط ، لن يتحقق ولا تقبل به حتى الأنظمة العربية (المنددة كعادتها ) وأمريكا أيضا ، لأنه سيشكل انتصارا لحماس في ظل تزايد الاتهامات لإيران بنقل أسلحة لها و لحزب الله ، وكذلك سيمنح حكومة غزة مزيدا من الصمود وسيزيد من ضعف موقف سلطلة رام الله . ولكن الغريب أن من كان وراء هذا العمل الكبير ومن ضحى بحياته في هذه القافلة ليس عربيا من كل هؤلاء الأعراب الذين يتبجحون كل يوم بدعمهم للقضية الفلسطينية بل في غالبيتهم أتراك وغربيون ،تركيا التي لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وتربطها اتفاقات عسكرية واقتصادية كبيرة معها ومع ذلك اختارت أن تكون منطلقا لهذه الحملة التي لا يستطيع أي نظام عربي أن يبادر إلى مثلها رغم عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية مع الكيان الغاصب . تركيا الكبيرة التي فرضت نفسها في الاقتصاد وفي السياسة هاهي اليوم شقت طريقها نحو فرض القانون الدولي بدماء مواطنيها ، هذا القانون الذي وضعه اليهود أنفسهم من اجل تفادي تفتيش السفن التي كانت تقل المهاجرين اليهود الذين فروا من النظام النازي .واليوم القانون الذي وضعوه يحاصرهم ويجعلهم في موقف حرج أمام المجتمع الدولي الذي لا يعيرونه أي اعتبار أصلا، كما أبانوا عن درجة جنونهم الذي سيقودهم نحو الهاوية لا محالة، وسيغير قواعد اللعبة ضدهم . لقد عملت تركيا من خلال أسطول الحرية كما فعلته قريش في حلف الفضول والذي هدف إلى مواجهة الظلم واسترداد الحقوق المهضومة. فإذا كان الحلف استطاع أن ينتزع الحقوق من شخص مثل أبو جهل الذي يمثل رمز الطغيان في الواقع العربي الجاهلي ، فان تركيا تحاول أن تفعل نفس الشيء حاليا مع اكبر رمز للظلم والاستهتار بالقانون الدولي الذي تمثله إسرائيل ، وقد لا يوجد فرق كبير بين الواقعين فقط الذين كانوا وراء الحلف الأول هم عرب، أما عرب اليوم فهم من يساهم في الظلم وهم من ينفذه على الأرض وهم من يحرسه . وتركيا غير العربية هي التي منحها الله هذا الشرف الذي يتمنى كل أحرار العالم أن ينضموا إليه ويكونوا فيه شركاء بل شهداء ، كما تمنى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول.و كان بالإمكان لأي عربي أن يبادر بمثل ذلك فيصنع التاريخ وتخرج المظاهرات تهتف باسمه لكن الشرف أبى أن يكون عربيا ،لان العرب يتنافسون حول من يشتري اكبر متجر في انجلترا أو اكبر نادي رياضي أو اكبر ملهى ليلي ويتنافسون من يبني أعلى برج عالمي ومن يصنع اكبر علم أو اكبر قصعة الخ .. لكنهم لا يتنافسون حول من يسير اكبر أسطول إلى غزة أو الصومال أو العراق أو غيرها وقد نسوا أن يسجلوا في كتاب غينيس الأرقام القياسية التي حققوها في البقاء في السلطة أو في الخطابات والوعود الرنانة التي أطلقوها وتنديداتهم القوية أو حتى في تكرار اسم فلسطين في قراراتهم . انه حلف يذكر أيضا بحصار المسلمين في شعب أبي طالب من خلال الوثيقة التي وقعها سادة قريش ونفذوها لمدة ثلاث سنوات و كان أبو لهب هو من يتولى تنفيذ الحصار وسد كل المعابر على جيرانه ، وكان أول من بادر إلى فك الحصار هو وفد الحبشة بتنسيق مع جعفر بن أبي طالب .وبعد ذلك بادر بعض العرب غير المسلمين بزعامة هشام بن عمر من بني عامر بن لؤي الذي كان يزود المحاصرين سرا ببعض الطعام والذي دهب إلى زهيز بن أبي أمية المخزومي وأقنعه بالانضمام إليهم فقال له :ابغ لنا ثالثا: فانضم إليهم المطعم بن عدي فقالوا ابغوا لنا رابعا : فانضم إليهم أبي البحتري بن هشام فقالوا ابغوا لنا خامسا :فانضم إليهم زمعة بن الأسود بن المطلب واتفقوا أن يناقشوا الأمر في دار الندوة، فلما أصبحوا بدأ هشام بقوله :( يأهل مكة آنا كل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى ،لا يباع ولا يبتاع منهم ،والله لا اقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة )، وقال له أبو جهل: كذبت والله لا تشق ، فرد عليه الخمسة واحدا تلو الآخر وصدقوا أقوال بعضهم ، فسقط في أيدي أبي جهل وقال: هذا أمر دبر بليل . وهكذا كسر الحصار ،فما أشبه اليوم بالأمس، فقط في الحالة الأولى انتصرت النخوة على الطغيان ، أما اليوم فلا نخوة ولا قانون يمكن أن ينتصر مادام الطرف الذي يتعامل معه هو صهيوني لا يرقب إلا ولا دما .