هناك سؤال يؤرقني كثيرا ويشغل بالي هذه الأيام أريد أن أشرككم قرائي الأعزاء معي في البحث عن تفسير واضح وجواب مقنع له ، وهو كيف يهون على بعض المسؤولين في هذا البلد السعيد صرف وضياع مبلغ يفوق 27 مليون درهم في ظرف أسبوع من أموال الشعب للدعاية والتنظيم وتسديد فواتير إقامة وتنقلات فنانين من كل الأصناف والأوزان بفرقهم متعددة الأفراد ومعداتهم وتجهيزاتهم ، جيء بهم من جميع أرجاء المعمورة للمشاركة في مهرجان غنائي اسمه موازين إيقاعات العالم مقابل شيكات بأرقام مذهلة ، في ظرف لا زال فيه المواطنون يعانون من آثار الكوارث الطبيعية الأخيرة التي ألحقت أضرارا بالغة بهم وبممتلكاتهم ، ويعانون من قساوة الظروف وغلاء المعيشة .. ولو يعلم ضيوف هذا المهرجان من الفنانين الكبار والصغار العرب منهم والعجم حجم الفقر الذي يعيش فيه أكثر من ثلثي المغاربة لما وافقوا على المجيء للغناء هنا عندنا والرقص على جراح البؤساء والمحرومين مقابل مبالغ مالية ضخمة يؤديها الشعب المغربي والمواطنون المغرر بهم بطريقة مباشرة متمثلة في اقتناء تذاكر الدخول للسهرات ، وغير مباشرة متمثلة في الدعم الذي تقدمه الحكومة المغربية لهذا المهرجان من الأموال المستخلصة من الضرائب بمختلف أنواعها ومسمياتها التي يؤديها التاجر البسيط وبائع السجائر والسمك والخضروات والفواكه بالتقسيط والموظف الصغير وأصحاب المقاولات الصغرى ، ومن الفواتير الملتهبة للماء والكهرباء والهاتف وشبكة الإنترنت التي يكتوي بنارها المواطنون ، ومن الإعفاءات الضريبة التي تقدمها الدولة لمؤسسات القطاع الخاص المساهمة في الميزانية العامة لهذا المهرجان ، وهي في نهاية المطاف ضرائب كان يجب تأديتها كاملة لخزينة الدولة ، وهو ما يعني أن هناك هدرا للمال العام مهما حاول المنظمون لهذا المهرجان خداعنا ومراوغتنا والتغطية على جرائمهم في حق هذا الشعب ، بحجة أن ميزانية المهرجانات الفنية تسدد جانبا مهما منها مؤسسات القطاع الخاص والممولون والمستشهرون . لو يعلم هؤلاء الفنانون مصادر هذه الأموال التي يتقاضونها في شكل شيكات سمينة تتراوح بين مائتي مليون ومليار سنتيم لكل واحد منهم في كل دورة يتسلمونها من أيادي سخية لم تدفع شيئا من جيبها ، لاعتذروا فورا عن المجيء . لو يعلمون أن خلف كل تلك الكلمات الترحيبية بهم والأضواء الكاشفة والألوان المتلألئة التي تنير وتزين أمسياتهم يعشش بؤس بالأبيض والأسود ، لقالوا للمنظمين سمحوا لينا الصدقة في المقربين إليكم ومواطنيكم أولى . لو يعلمون أن وراء تلك المنصات العملاقة المجهزة بأحدث التقنيات السمعية والبصرية التي يؤدون عليها فقراتهم الغنائية ورقصاتهم ، وفي جنباتها ومحيطها على بعد أمتار وكيلومترات قليلة منها يقبع شعب فقير ، لتنازلوا عن مستحقاتهم المالية وتعويضاتهم لفائدة المحتاجين والمعوزين ، إيمانا منهم واقتناعا بأن هذا الشعب المنكوب والمنهك في حاجة إلى من يتضامن معه في هذه الظروف ومن يسانده في محنته ، لا إلى من يضحك عليه بالفن والموسيقى ويستنزف أمواله ويبددها في أمور تدخل في باب الكماليات والرفاهيات . ولكن المسؤولين عندنا مع كامل الأسف لا ينقلون إلى هؤلاء الفنانين الحقيقة كما هي . يقدمون لهم وجها مشرقا مزيفا لمغرب غني ، يسكنه شعب عاشق للفن ، متيم بالفنانين ومهووس بحب أساطير الموسيقى والغناء العالمي . يقدمون لهم هذا البلد الذي أخفوا عيوبه وتجاعيده بكل أنواع المساحيق والمواد التجميلية ، وكأنه جنة فيحاء ينعم فيها المواطنون كلهم بالرخاء والخيرات ، ولا ينقصهم سوى من ينظم لهم المهرجانات تلو المهرجانات على مدار السنة ، ومن يجلب لهم ألمع نجوم الغناء من خارج الحدود ، بينما واقع الحال كارثة والحقيقة شيئا آخرا . إن هؤلاء المسؤولين باستقدامهم لهؤلاء النجوم الكبار والمثيرين منهم للجدل يسعون إلى تسويق صورة المغرب السياحية ، وإلى إثارة انتباه العالم إلى رقعة جغرافية صغيرة من الكرة الأرضية اسمها المغرب . إنهم بتنظيمهم لهذه المهرجانات الفنية والسهرات الموسيقية الصاخبة يسعون لاستقطاب السياح من البلدان الأنجلوسكسونية والأمريكو لاتينية الذين لا يعرفون فين جا هاد المغرب على خارطة العالم. إنهم يلتجؤون لجذب السياح والعملة الصعبة إلى هذا الحل السهل الذي لا يحتاج إلى جهد كبير وإلى عقول مفكرة ولا إلى مؤسسات ولا إلى مناهج وكفاءات بشرية ولا إلى بناء قاعدي ، بعدما فشلوا في التعريف بالمغرب بطرق أخرى أقل تكلفة وأقل إساءة لتاريخه وإضرارا بسمعته ، من خلال تقديم علماء كبار ومثقفين ومفكرين وأدباء وسياسيين ودبلوماسيين بارزين وأذكياء للعالم يمثلوننا خير تمثيل في الهيئات والمحافل الدولية ، وبعدما فشلوا في تكوين نجوم حقيقيين في الفن ومنتخبات قوية في الرياضة وأبطال يعتلون المنصات ويرفعون راية البلد بين رايات الأمم والشعوب ، ويعرفون به كما كان يفعل سعيد عويطة ونوال المتوكل ذات زمان ، وهشام الكروج ونزهة بدوان وآخرون فيما بعد ، وكما فعل بادو الزاكي ومنتخب مكسيكو 86 قبل أكثر من عقدين من الزمن . إن هؤلاء المسؤولين القائمين على شأن هذه المهرجانات يشتغلون بمنطق الغاية تبرر الوسيلة ، ولذلك يستدعون للدوس على قيمنا وكرامتنا والغناء والرقص في بلادنا على جراحنا كل من هب ودب ، وكل من سطع نجمه في عالم الموسيقى بغض النظر عن أخلاقه وحياته الخاصة كما يقولون ، وبصرف النظر عما يمثله البعض منهم من قدوة سيئة أو حسنة بالنسبة للشباب وناشئة البلد الذي يحلون ضيوفا على أهله وساكنته . في هذا الصدد ، وأنا أتأمل حدث صعود ذلك الممسوخ المدعو إلتون جون إلى منصة حي السويسي بالرباط ، بدت لي بلادنا مع كل الأسف كخرابة مهجورة ، الكلب اللي داز ( شرف الله قدركم ) يبول على جدرانها وحيطانها ثم يمضي إلى حال سبيل معززا مكرما ، واللي جا يضحك علينا فهاد البلاد ونحن ساكتون وخاضعون للأمر الواقع وللقرارات والاختيارات المفروضة علينا من فوق ، لا ندري إلى متى ؟ وإنهم في هذا الإكراه الذي يفرضونه علينا يستقوون علينا بجهات محسوبة علينا كمجتمع مدني ، بجهات تساندهم وتؤيدهم رغم فداحة الجرم المالي والأخلاقي المقترف في حق الشعب ومصالحه العليا الدينية والدنيوية . وحقيقة لا أدري بأي حساب وبأي منطق يفكر هؤلاء الذين يدافعون عن مهرجان فني موسيقي صرفت عليه في ظرف أسبوع ميزانية تجاوزت سقف 27 مليون درهم من المال العام ، وكيف يدافعون تحت غطاء حماية الفن وقيم الانفتاح والتسامح الثقافي واحترام الحريات الفردية عن فنانين من حثالة المجتمع الأوروبي ؟ لا أدري كيف يدافعون وبحماس منقطع النظير عن ذلك المطرب التافه المدعو إلتون جون الذي أجزم أن تسعة وتسعين في المائة من الذين حضروا سهرته ليلة الأربعاء الماضي لم يفهموا شيئا مما كان يقوله وما كان يتغنى به ، حتى بدا المسكين في عيون ونظر المتتبعين الرجال العاقلين كحمار ملون بكل ألوان عالم الحيوانات في زريبة كبيرة وهو محاط بقطيع من الخرفان والنعاج من كل السلالات والجنسيات ، وماذا يفهم - بالله عليكم - قطيع من الأغنام والماشية من نهيق حمار عند الفجر أو في ليلة سوداء مظلمة . إنكم أيها الحداثيون المنفتحون جدا على كل الثقافات بدفاعكم المستميت عن إلتون جون وعن هذا المهرجان وعن حق الناس في الفرجة والترويح عن النفس - وهو حق أريد به باطل - تمنحون المبررات للقائمين على مثل هذه المهرجانات للهف وهدر مزيد من الأموال العامة ، وتمدونهم بما يحتاجونه من دعم ومؤازرة للتمادي في اقتراف الجرائم المالية والأخلاقية ، وما يحتاجونه من قوة وشجاعة لتحدي مشاعر الناس في هذا البلد المسلم وإرادة شعبه الذي لو استفتي في أمر هذه المهرجانات لقال كلمته الفاصلة بكل صراحة ووضوح . إنكم أيها الحداثيون بافتعالكم لهذه النقاشات الهامشية حول دوافع وخلفيات من تنعتونهم بالقوى الرجعية والظلامية التي عبرت عن رفضها وشجبها واعتراضها على استضافة وجوه فنية معروفة بانحرافها وشذوذها ودفع فواتير حضورها ومشاركتها ، تحولون اتجاه النقاش حول القضية الأساس التي هي قضية شعب يموت جوعا وتعيش الغالبية العظمى منه تحت عتبة الفقر وفي ظلمات الجهل والأمية ، ومسؤولين غير مسؤولين يبددون أمواله على المهرجانات التافهة التي تنتهي . إن المعركة التي يجب على الجميع خوضها اليوم علمانيين ويساريين وإسلاميين هي معركة الدفاع عن حق الشعب في الخبز والشغل والسكن اللائق قبل حقه في الفن والتسلية والترفيه . أما إذا كانت لكم - أيها الحداثيون- منافع وأرباح تجنونها من تحت الطاولة ومكاسب مالية تحققونها من وراء دعمكم لهذه المهرجانات الموسيقية ، وافتعالكم لكل هذه المعارك الجانبية من أجل صرف الاهتمام والأنظار عن صلب وجوهر القضية ، فتلك مسألة أخرى وسيأتي لا محالة اليوم الذي سينفضح فيه أمركم وتنكشف فيه أهدافكم الحقيقية وهذه الأيام بيننا .. [email protected]