ان ما دفعني للكتابة في موضوع التعليم بالمغرب،وهو الذي أسال بحرا من المداد حول أدائه واختلالا ته ،هو التصريح الذي أدلى به رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان" أحمد حرزني "من أن أزمة التعليم بالمغرب مرتبطة حصرا بغياب الضمير المهني لدى رجال التعليم،معتبرا قوله شجاعة وجرأة يفتقر إليها المسئولون المغاربة. حدث ذلك أثناء استضافته في برنامج "حوار " الذي تقدمه شهريا القناة الأولى. منهجيا لم يكلف استأذنا الحقوقي نفسه عناء البحث والتقصي في تاريخ التعليم بالمغرب ،وفي أدنى الأحوال لم يبارح مكتبه الفاخر للاطلاع على كتابات دوي الاختصاص من مربين وباحثين وسياسيين ونقابات ،فيما يشبه إعداما ومصادرة للحقيقة ،تلك الحقيقة التي يتمظهر صاحبنا بمظهر من يعمل على إجلائها سواء في المؤسسة التي يتراء سها او من خلال تفعيل توصيات لجنة الإنصاف والمصالحة. يجدر بنا إذن أن نذكر الرئيس الحقوقي بما يفند رأيه المجحف بجرد لأهم أسباب تأزم الوضع التعليمي بالمغرب والمسؤولين عنه . فالإطار المرجعي لهذا النظام ،وهو الميثاق الوطني للتربية والتكوين، لم يكن نتيجة حاجة مجتمعية بأبعادها الثقافية والاقتصادية والروحية ،ولم يكن نتيجة تشخيص دقيق وعلمي للوضع التعليمي ،بل كان ترجمة ممتازة لإملاءات صندوق النقد الدولي المتضمنة في تقريره المشهور لسنة 1995.لقد كان هذا التقرير حبلى بتوصيات ظاهرها انقاد نظامنا التعليمي من الإفلاس وباطنه فيه الإجهاز على ما تبقى من المدرسة العمومية ومن كرامة الشغيلة التعليمية.وحتى لا أتهم بالعدمية والسفسطة ،أذكر بالتقرير الذي أعدت ه اللجنة العليا لتقويم الإصلاح (cosef) سنة2005والذي تضمن اعترافا صريحا لا لبس به بان الإصلاح فاشل وان المؤشرات المرسومة لم تتحقق في أغلبها بسبب اكراهات لا يتحمل رجال التعليم وزرها. فرغم أن الميثاق الوطني للتربية و التكوين جاء لتجاوز خطاب الأزمة و الذي قيل عنه أنه نتاج توافق إرادي بين القوى الحية للأمة و يحتفظ براهنيته و نجاعته كإطار مرجعي لإصلاح المنظومة التربوية فإن تطبيقه خلف اختلالات نجملها فيما يلي : * تراجع صورة وجاذبية المدرسة العمومية ؛ * ارتفاع نسبة الأمية؛ * انخفاض نسبة تمدرس الأطفال الذين هم في سن التمدرس؛ * غياب مبدأ الديمقراطية في التربية والتعليم متجليا في وجود فارق كبير بين الوسط القروي و الحضري و بين الذكور و الإناث؛ * تزايد بطالة حاملي الشهادات؛ * تدهور البنية التحتية لأغلب المؤسسات التعليمية ؛ * انعدام المراحيض والماء والكهرباء خاصة في العالم القروي؛ * اختلال في توزيع الموارد البشرية:مناطق تعرف فائضا في المدرسين مقابل أخرى تعاني من الخصاص؛ *طرق التقويم والامتحانات معوجة ومجحفة؛ * تراجع التأطير لتربوي؛ * تهميش مطالب رجال التعليم المادية والمعنوية؛ * تراجع اعتمادات الدولة المخصصة للتربية والتكوين بالنسبة للدخل الخام. * فشل الرهان على مجالس المؤسسة وتنازع الاختصاصات فيما بينها. وبعد سنتين من تقرير اللجنة العليا لتقويم الإصلاح صدر تقرير للبنك الدولي سنة 2008 حول التعليم بالمنطقة العربية ،وهو التقرير الذي رمى بالمغرب في المرتبة 14 مستعرضا الاختلالات العميقة التي يعاني منها التعليم المغربي والتي كبلته وجعلته عاجزا عن رفع التحديات التي سطرها الميثاق.وللخروج من الأزمة اقترحت هذه المؤسسة المالية الدولية عدة إجراءات كفيلة بإنعاش التعليم المغربي وإخراجه من أزمته المزمنة.المهم هو أن الدولة المغربية استقبلت التقرير / المحاكمة بذهول كبير فسارع المجلس الأعلى للتعليم إلى إصدار تقرير ه الشامل حول واقع المنظومة التعليمية مسترشدا بتوصيات صندوق النقد الدولي . فكان البرنامج ألاستعجالي ثمرة هذه القراءة. صحيح أن الميثاق الوطني للتربية و التكوين هو الإطار المرجعي للبرنامج ألاستعجالي ومنه يمتح مضامينه بهدف تسريع وثيرة الإصلاح ، وصحيح كذلك أن هذا البرنامج ألاستعجالي أتى بايجابيات لا ينكرها إلا جاحد وعنيد ،من قبيل تطوير التعليم وتأهيل المؤسسات التعليمية،توسيع العرض التربوي وربط المؤسسات التعليمية بالماء والكهرباء،محاربة الهذر المدرسي من خلال الدعم المالي واللوجستيكي(توفير النقل-توفير الثانويات والاعداديات والمدارس الجماعاتية.). إلا أن المتمعن في مشاريع هذا البرنامج وأهدافه الإستراتيجية ليتأكد لديه أن المنظومة التعليمية بالمغرب أمام مخطط استراتيجي ،وليس استعجاليا ..و ان ما يحمله من سلبيات وثغرات أكبر تأثيرا و أشد وقعا على المدرسة العمومية.يتجلى ذلك على سبيل المثال لا الحصر في: * تغييب الشركاء الاجتماعيين في بلورة هذا المخطط ،و اقتصار الوزارة على مد النقابات بالتقرير التركيبي عوض البرنامج المفصل؛ * اتجاه الدولة الصريح نحو تبضيع التعليم وخصخصته من خلال تقديم امتيازات ملفتة للقطاع الخاص من اجل الاستثمار في التعليم الأولي بالمجال الحضري مضافا إليه إعفاءات ضريبية للاستثمار في باقي الأسلاك الخصوصية عملا باتفاق الصخيرات في عهد حكومة جطو ،دون أن ننسى اعتماد الوزارة على طريقة التدبير المفوض للخدمات المدرسية كالحراسة والتنظيف والبناء والإصلاحات وتسيير الداخليات؛ * إصرار الدولة على ضرب مجانية التعليم وتعميمه،اذ لا يعقل ان تلجأ إلى فرض رسوم على التعليم الثانوي التأهيلي والجامعي واعتماد أسلوب الانتقاء لولوج الجامعة ؛ - نهج سياسة تقشفية في التوظيف من خلال اعتماد أساليب ترشيد الفائض وضم الأقسام والأستاذ المتحرك واعادة الانتشار؛ * ضرب استقرار الشغل باتخاذ الدولة لإجراءات أولها التوظيف التعاقدي، بدون تكوين أساسي متين ولا تكوين مستمر هادف،وهو ما يتعارض وادعاءات الدولة بصدد رغبتها في توفير تعليم جيد.وثانيها اعتماد "الأستاذ المتحرك"،و الهدف منه إلزام الأستاذ باستكمال حصته الزمنية الأسبوعية بالتدريس في عدة مؤسسات يمكن ان تكون متقاربة ويمكن أي يحصل العكس. هذه الطريقة تهدف الوزارة من وراءها توفير اكبر عدد من الأساتذة لترشيد النفقات وبالتالي إرضاء المؤسسات المالية الدولية على حساب الأداء و المر دودية.وثالثها فرض ساعات إجبارية على رجال التعليم تخصص للدعم(ساعتان في الإعدادي وثلاثة في الابتدائي) ؛ * اعتماد شبكة جديدة لتقويم أداء الموظفين. رغم رفضها من طرف رجال التعليم. * تكليف الأستاذ بتدريس مواد ليست من اختصاصه تحت مبرر المواد المتآخية مما يؤثر على المرد ودية. * متاهات الاستاذ الجديد مع امتحان الكفاءة المهنية من أجل الترسيم . * تخصيص الفترات البينية للدعم آو الامتحانات او التكوينات عوض الاستراحة لالتقاط الأنفاس. * رفض الوزارة التراجع عن الساعات التطوعية. * عدم الحسم في المسألة اللغوية مما خلق قطيعة بين التعليميين الابتدائي والثانوي وبين التعليم الجامعي، الأول معرب والثاني مفرنس. * عدم الحسم النهائي في الاختيار البيداغوجي وضبابية المفاهيم المتداولة ، فمن مقاربة التدريس بالكفايات إلى الحديث عن "بيداغوجيا الإدماج" ؛ بالإضافة إلى عشوائية التكوينات الخاصة بهذه البيداغوجيا تحضيرا وتمويلا ومضمونا * ضخامة المقررات الدراسية وعدم ملامتها للمقاربة بالكفايات. خلاصة القول : ان اعتبار رجال التعليم مسؤولين وحيدين عن مآل المنظومة التربوية بالمغرب ليس مجرد فلتة لسان من رجل حقوقي خبر تاريخ المغرب ،بل هو جزء من خطة ممنهجة ومحكمة الغرض منها تبخيس صورة المدرس في أوساط الجماهير وإبعاد الشبهة عن السياسات اللاوطنية واللاشعبية للحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال ،لأن تلك السياسات ،التي خربت التعليم ،هي نفسها التي تنصلت من الخدمات الاجتماعية (الصحة والسكن والنقل...)وخصخصت القطاعات الاقتصادية الحيوية للبلاد وميعت العمل السياسي.فهل يتجرأ السيد "حرزني" ليشير ،ولو ضمنيا،إلى المسؤولين عن تلك السياسات؟ لقد ذكرت لعل الذكرى تنفع السيد الرئيس.