عن رحلة الرواية والتاريخ : قراءة في le conquérant de l'empire imaginaire* لعبد الله الساعف يعرف القراء والمهتمون ذ. عبد الله ساعف محللا ودارسا للعلوم السياسية والاجتماعية ، لكنه يأبى إلا أن يقدم نفسه في عمله الأخير روائيا في مجال ما فتئ يجلب المبدعين ألا وهو الرواية التاريخية . فإلى أي حد توفق ذ. عبد الله ساعف في اقتحام عالم الرواية* ؟ وما التقنيات التي استعان بها عمله الإبداعي ؟ قراءة مقتضبة . تؤرخ الرواية إلى فترة هامة من تاريخ المغرب ( أواخر القرن 15) مباشرة بعد الانتصار التاريخي للدولة السعدية في معركة الملوك الثلاثة وتولي المنصور الذهبي زمام الأمور في ظرفية لم تختف فيها المخاطر المحدقة بالبلاد ولم تنتف تماما ظروف استتباب الأمن وانتقال الحكم بسبب الاقتتال بين الطامحين في الحكم والأطماع الأجنبية . في هذا الظرف التاريخي الدقيق ، يخطط المنصور في سرية تامة في إلحاق بلاد السودان ( مالي حاليا وتخومها) بربوع المملكة مستعينا بمربع ضيق من المستشارين والعلماء والأعيان قصد توسيع الإمبراطورية ورفع راية الإسلام في مناطق أفريقيا السوداء باعتباره سليلا للنبي وخليفة لله في أرضه .سيكلف بهذه المهمة –وسط ذهول المتتبعين- قائدا محنكا أندلسي الأصول وهو جودر/ محور العمل الروائي الذي سيحقق انتصارا سهلا . فبعدما وضعت الحرب أوزارها بانتصار بين-لكنه غير مكتمل- لبلاد الغرب ( المغرب حاليا) تفاوتت التقديرات بخصوص هذا الإنجاز لأن جودر دخل غداة انفلال الجيش "السوداني" في مفاوضات غير مفهومة مع ملك السود "الأسقيا إسحاق" الذي عاد وقبل شروط السلطان السعدي بدفع إتاوة سنوية مهمة لفائدة الخزينة المغربية لفاء استغلال منجم للملح بتيغزا . مفاوضات جعلت السلطان يستشيط غضبا لأن قائد جيشه لم يكن مؤهلا لهذه الخطوة بل مطالبا بأن يذهب إلى أبعد نقطة في مهمته حتى يبسط نفوذ بالكامل على بلاد السودان وترسيم حدود مملكة بلاد الغرب. ستحط بين يدي السلطان ، تباعا ، تقارير تفيد بأن جودر استكان ولان وحاد عن تعاليم الدين ودخل في سلوكات غريبة عنوانها السحر والدجل وسفك الدماء وتقرب "غير مفهوم من العدو" . تكليف الراوي بالتحقيق في أمر القائد جودر سينكب الراوي على التقارير التي سلمه السلطان بغرض البث في أمر القائد "المنحرف" والمقال من مهامه ، ودونما انتظار ، سيقصد بلاد السودان في حماسة لا توصف مسلحا بمنهجية لا تقتصر فحسب على الوثائق بل على تتبع واقتفاء كل من عرف جودر عن قرب أو عن بعد وهي المنهجية التي جعل منها أمرا شخصيا وهوسا حقيقيا . يقول الراوي : " سأذهب ليس لمعرفة الرجل فحسب أو لتحديد الخطر المحدق بالدولة ، لكن لأعيش تجربته من ألفها إلى يائها ولأستوعب وأفهم منهجيته كي أعيد بناءها وتمثلها وتقييمها" الصفحة 101 . ولقد وضع نصب أعينه الجواب عن أسئلة دقيقة منها الوقوف على نتائج العمل السياسي والعسكري في منطقة الجنوب وتحديد ما آل إليه مجهود الدولة لإعادة البلاد إلى قلب التاريخ ومعرفة وضع الجيش وقائده جودر تحديدا ( الصفحة 154) . القائد جودر: ألغاز بالجملة سيصل الراوي إلى بلدة الكثبان الزرقاء Ville des dunes bleues ليواصل تحقيقه رفقة شلة عينها الملك بنفسه وحثها على فك طلاسم التحول المفاجئ في سلوك قائد ظل وفيا للملك وقام وعلى الوجه الأحسن بجميع المهام بما فيها المهام القذرة ( إرغام الرعايا على دفع الضرائب مثلا ) . إضافة إلى عدم النظر بعين الرضا إلى دخوله في مفاوضات "غير مبررة" مع المنهزمين وهو في أعراف المملكة المرعية تجاوز للصلاحيات وصلفا لا سابقة له ومعروفة عواقبه ، إضافة إلى هذا ، فلقد فتن جودر بامرأة سودانية آية في الجمال ستضع حدا لحياتها في ظروف غامضة بعدما تعرف إلى ذويها وتقرب من أبيها . ثم إنه بعد الانتصار ، ارتكب حماقة أخرى بأن بعث إلى السلطان مالا وبضعة جواري فلم يتأخر رد السلطان الشديد اللهجة " أتعرض على مالا وقد وهبني الله أكثر منك ؟ عد إلى عدوك وإن دعت الضرورة بعثت جيشا بأعداد لا تقاوم ، الصفحة 124) . في عرف التقاليد ، تبقى "الردة" والخروج عن دين الإسلام هي أخطر تهمة وجهت له . إلا أن بعض التفاصيل الصغيرة نالت حظها أيضا في تقصي الراوي وهي المتعلقة بطفولة جودر الشقية المقرونة باقتلاع مبكر من أحضان أم حنون وقصة الإخصاء la castration غير المؤكدة نظرا لوفاة كل ممتهني هذه الحرفة في صغره. في آخر أيام إقامته بمدينة الكثبان الزرقاء ، سيصل الراوي /المحقق إلى جودر نفسه في مطاردة محفوفة بالمخاطر وستكون فرصة ثمينة لاستشفاف رأيه وفهم حقيقته وهو الرجل المتمكن من لغة الحجاج . لم ينف ولم يؤكد التهم المنسوبة له ، لكنه قدم أطروحة مفادها أن "الشخص تسكنه أبعاد متعددة ، فهو يمثل الخير والشر في آن ، الحاكم الطيب والجلاد القاسي ، خادم المصلحة العامة والخاصة ، رجل الدولة والخارج عن القانون " ( الصفحة 179) مضيفا "الحكم عالم يؤدي بمن يمتلكونه حتما إلى الضياع" (الصفحة 186) . مصير تنبأ به حين سيعود إلى بلاد المغرب ليموت بالسيف وتضيع معه أسرار وأسرار. الراوي وتقنيات السرد لعل اللجوء إلى التقاطعات والأصوات المتعددة polyphonie من شهادات متنوعة ومصادر مختلفة هو الذي ميز بناء النص إلى درجة جعل منها الراوي خيطا قاده من أجل خلق الانطباع لدى القارئ أن المادة المحكية مؤسسة على التجرد والموضوعية بفعل غنى وغلبة المادة التقريرية على حساب السرد البحت وجموح الخيال ، هكذا ، تفوق في تقنيات الاقتباس والاستعانة بالشهادات دون أن يسقط في الانحياز أو الزيغ. ومع ذلك، يحدث المحظور أحيانا حين يسمح لنفسه بالتعليق أة يثير تعجبا كما ورد في الصفحة 143 إذ يقول " ما أثارني الرواية الرسمية في الرواية الرسمية أن الملك لم يصدر أمره لجودر بالعودة إلى مراكش " حين يم إعفاؤم من مهمة قيادة الجيش أو كما ورد بخصوص التأثير الجارف للفاتنة الإفريقية على جودر إذ نكتشف الفكرة ونقيضها حين يقول إن جودر فتن بتلك المرأة وهام بها وفرط في مهامه ، ثم يعود فيكاد يجزم أن "لا شئ يدفع إلى الاعتقاد أن جودر تقرب من أبيها لينال قلبها لكنه كان مشغولا بشرعية السلطة الجديدة ( الصفحة 158) .تنضاف إلى هذه التقنية تقنية أخرى جديرة بالتسجيل ترمي إلى تنويم القارئ فيما يشبه خدرا خفيفا داخل معمعان الأصوات المتداخلة وانعدام الفواصل بين راو مصمم على أخذ مسافة معينة من المادة الإخبارية في تماه ملحوظ مع بنية النص السردية... حول النظام يشدد الراوي في بناء النص على مقومات الحكم في الفترة المذكورة ( لغة منتقاة بعناية لحفظ الحمولة التاريخية للمفاهيم) تاركا للقارئ حرية استخلاص ما يراه مناسبا من دروس وعبر ومقارنات ....ففي حضرة الملك المنصور حرص كبير على التفاصيل ، يقرأ المراسلات ويعيد قراءتها ويتتبع كل مهمة على حدة ويحرص على الإجماع بخصوص قضية كبرى من قبيل الذهاب إلى السودان ويستمع إلى الأصوات المعارضة ويرد عليها ولا يتهاون قيد أنملة في نبذ المتخاذلين وتعريضهم لأقسى العقوبات وفوق كل هذا وذاك يعي المنصور أن الملك في عين صاحبه كما في عين رعيته ، فكلما استقام وراق مجدته الرعية وزادت... كلمة الختام لا يمكن إلا الإشادة بهذ العمل ، فهو محاولة جريئة وقيمة مضافة إلى سيل من الأعمال الإبداعية التي تشتغل على التاريخ كمادة خام بغية تحويله إلى مادة روائية مستساغة وفي متناول فئات عريضة من القراء حتى ولو أنهم غير متخصصين ( الموريسكي لحسن أوريد ، حنبعل لزكية داوود ، تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية ، الأندلسي لبنسالم حميش ...) أعمال اختار أصحابها طريقا ليس معبدا بالضرورة ، فقط يجب أن يلازمها النقد والتتبع وتلك قصة أخرى... *الرواية صادرة عن منشورات la croisée d es chemins، باللغة الفرنسية في حوالي 194 صفحة مطبعة المعارف الجديدة. * الرواية موضوع القراءة هي الإنتاج الثاني للأستاذ عبد الله الساعف في التاريخ بعد Histoire d'Anh ma وvoyage d'Europe