بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لتفجيرات الدارالبيضاء الإرهابية عام 2003، يعود ملف السلفية كما في كل عام ليلقي بثقله في ساحة النقاش(وهو نقاش غير عمومي حتى الآن)، ومعه تعود قضية ما يسمى ب"المراجعات" في أوساط السلفيين. وخلال السنوات الماضية كان هناك شبه إجماع على وجود هذه"المراجعات"، بل قدمت بعض المبادرات الفردية التي تم القيام بها داخل السجون على أنها مراجعات حقيقية، وتم الترويج لها إعلاميا على نطاق واسع، في الداخل والخارج. الأكثر من ذلك أن الحالات التي تم الإفراج عنها بعفو ملكي، وهي حالات من أطلق عليهم إسم"الشيوخ"، جرى التسويق على أن مغادرتها للسجن استندت بالأساس على وجود تلك "المراجعات". ولكن تحليل الأمور يضعنا أمام مفارقات كبيرة لا تجعل هذا الملف منضبطا لقواعد محددة في التفسير. ذلك أن المفرج عنهم من الشيوخ غير مجمعين على هذه"المراجعات"المزعومة، إذ إن بعضهم يضع مسافة بينه وبينها بل يحاول التبرؤ منها أصلا. ثم إن الوثيقة الوحيدة التي يتم الارتكاز عليها بوصفها مراجعات هي وثيقة"أنصفونا" التي وضعها عبد الوهاب رفيقي أبو حفص وحسن الكتاني، وهي وثيقة قلنا عدة مرات إنها ليست مراجعات بقدر ما هي"بيان حقيقة" من أجل الخروج من السجن والتبرؤ من التهم الموجهة من طرف الدولة، هذا علاوة على أن الكتاني ينأى بنفسه عن تلك الوثيقة ويعتبر أنها تهم أبا حفص وحده، كما أن الدولة لا تتوفر لحد الآن على موقف تجاه قضية"المراجعات"تلك، ولو أن عمليات الإفراج تمت على أساسها لكان من الطبيعي أن تعمل الدولة على تشجيع هذه المراجعات واتخاذها منطلقا لتصفية ملف السلفية العالق. زد على ذلك قضية على جانب كبير من الأهمية، وهو أن الأستاذ أبا حفص صاحب مبادرة"أنصفونا" يرفض أن ينسب إلى تيار السلفية الجهادية، وهذا يقود إلى تناقض صريح، فإذا كان ذلك صحيحا لماذا الحديث عن المراجعات؟ وهل يمكن أن يراجع غير سلفي؟. وبعد عدة سنوات، يعود الأستاذ أبو حفص إلى نقطة الصفر في هذه القضية، ويسجل انقلابا على نفسه حول قضية المراجعات تلك. فقد اعتبر في تصريحات صحافية أنه لم يقم بمراجعات، وقال إن المراجعات لفظه غير مناسبة لما جرى في المغرب، اعتمادا على ما كان صاحب هذه السطور قد أكده مرات عدة، إحداها في برنامج حواري جمعني به قبل أزيد من شهر، رفضت خلاله أن أعتبر وثيقة"أنصفونا"مراجعة، أو أن يكون ما حصل في المغرب داخل التيار السلفي مراجعات بالمعنى المتعارف عليه، نسبة إلى غياب مجموعة من الشروط الذاتية والموضوعية التي ارتبطت بالبيئة الخاصة التي صدرت فيها تلك المراجعات أول ما صدرت في مصر، ثم في بلدان عربية بعد ذلك كانت فيها القاعدة ذات نشاط بارز، وكان لتيار السلفية هناك شيوخ مؤطرون وأدبيات وأتباع. إن التجارب التي تمت في المغرب تندرج ضمن إطار ممارسة النقد الذاتي لا المراجعات، فهي تجارب فردية تلزم كل واحد من المعتقلين الذين قاموا بها، سواء كانوا من صف"الشيوخ" أم من صف المعتقلين السلفيين الآخرين، بل إن المراجعات التي صدرت عن هؤلاء المعتقلين هي أكثر من تلك التي صدرت عن صف الشيوخ، لكن لم يكن لها حظ من الترويج الإعلامي. فوق ذلك، فإن النقد الذاتي الذي قام به هؤلاء الشيوخ لم يستطع التحول إلى مراجعة شاملة لسببين: الأول أنهم مقطوعو الصلة بالمعتقلين داخل السجون، الأمر الذي يعني أن تيار السلفية الجهادية في المغرب غير مرتبط بالمشيخة، والثاني أنهم غير متفقين على أي مشروع مشترك يمكنهم الدفاع عنه بشكل جماعي وإقناع الدولة والمعتقلين به. مواقف الأستاذ أبي حفص الأخيرة من شأنها أن تعيد النقاش حول السلفية الجهادية بالمغرب إلى نقطة البداية، وأن تدفعنا من جديد إلى إعادة تفكيك هذه الظاهرة التي يختلط فيها الديني بالسياسي والأمني. ولا شك أنها ستحدث وقع الزلزال في أوساط المعتقلين السلفيين الموجودين في السجون، والذين كان الكثير منهم يراهن على إنضاج مشروع متكامل للمراجعات الفكرية والعقدية بين أولئك الذين خرجوا وأولئك الذين ما يزالون رهن الاعتقال. ولعل هذا التحول في الموقف إزاء قضية"المراجعات" يخرج ملف السلفية من المقاربة الفكرية والعقدية التي كان يتم الدفاع عنها، إلى المقاربة السياسية والأمنية التي كانت تتعرض للانتقاد، وهذا تحول سيكون له تأثير عميق على الملف مستقبلا.