استيقظ خالد على صوت الهاتف، صوت مزعج حزين، وغير معتاد في هذه الساعة المتأخرة من الليل. وهو الذي يأوي إلى فراشه بمجرد أن ينهي الحصة الخامسة عشرة من لعب الكوتشينة على المقهى المعتاد. يدخل البيت عند منتصف الليل ... يحضر عشاء سريعا ثم ينام وقطعة السودوكو بين يديه، ودخان السجائر قد ملأ الغرفة فلا يوجد فيها متنفس، وذلك الصوت المزعج يناديه من داخله: أهذا أنت؟ أترضى هذا لنفسك؟ أهكذا تود أن تكون؟ أم أنك تساير هواك وتصر على ضياعك؟ خالد أستاذ رياضيات فطن شديد الذكاء، يحسب نفسه أذكى البشر وأحذقهم، إذا تحدث وجب الإنصات، وإذا أقدم وجب الإتباع. زوجته تعيش بعيدا عنه في القرية التي ينحدر منها أصلا، هنالك في ذلك البيت الذي ترعرع فيه، ينتظره والداه بفارغ الصبر، وزوجته التي تحبه أكثر من نفسها حتى. مضى عشر سنوات على زواجهما، لكنها لم تنجب قط، رغم أن إصرارهما معا على الأمر فاق صبرهما على الانتظار، هند لم تفقد الأمل، لا زالت تحلم بذلك اليوم الذي تقبل فيه رضيعتها ذات المحيا الملائكي والابتسامة الساحرة البريئة. أما خالد، فقد يئس من هذا الأمر حتى غدا تلامذته أعداءه والكوتشينة أحب إليه من ابنته المنشودة. لكن الأمور لم تسر على هذا المنوال في نهاية العام الماضي، يبدو أن في السماء من سمع دعاء هند وتقبل دمعاتها فأذن بأن يلعب في أحشائها الجنين الموعود. أميمة ذات السبعة أشهر أضفت الفرحة على الأم والجدين قبل أن تطل على الدنيا، بلغ بهم اليقين أن صاروا يجلسون يحدقون اليوم كله في تلك البطن المنتفخة، وحلمهم الوحيد أن يخرج منها يوما ما ذلك الكائن الودود البريء، حتى يجلي الكآبة والحزن عن البيت، وينهي رحلة العذاب التي دامت عشر سنوات. صوت محمد في الهاتف كان مرتجا، مليئا بالدموع ورغبة في الصراخ: "خالد، صديقي الحبيب، لقد أجاء هند المخاض ولما تتم شهرها السابع بعد، لا أدري ما أفعل، لقد طرقت والدتك بابي وملئها الصراخ، إنها تنزف دون توقف، أخاف أنك إن تأخرت لم تجدها، فليس في قريتنا طبيب ولا مستشفى، فأحضر طبيبا وهرول إلى المحطة قبل أن تفوتك حافلة الرابعة صباحا، فإن فاتتك هلكت زوجتك وهلك معها الجنين وإني لأخاف أن يهلك والداك أيضا " فما كان من خالد وقد تيقن من خطورة الموقف واقتراب موعد الحسم إلا أن وضب نفسه وحمل بطاقة ائتمانه وذهب إلى المحطة، هنالك هرع إلى المخدع المجاور، ضغط على الزر فسحب 500 درهم من أصل عشرة آلاف، وهو يعلم أن الأمر يتطلب 5000 درهم على الأقل، غريب أمره، هو ليس بخيلا ولا غبيا... لا ولا حتى كارها لزوجته وابنته، إنما هو رجل كريم فائق الذكاء، مليء بالحب والعطاء، ومتشوق أكثر من أي كان لأن يلقى زوجته حية ترزق وجنبه مولودته الميمونة: أميمة. الساعة الرابعة إلا ربع، بقي خمس عشرة دقيقة على انطلاق حافلة القرية، إما أن يحضر طبيبا ويركب الحافلة، وإما أن يعد عدته لجنازة من تركهم خلفه من أحبائه المنتظرين. وصل خالد المحطة، سمع صوت القائم على الحافلة ينادي " الدار الأخرى، الدار الأخرى، الدار الأخرى بعد ربع ساعة، خذوا تذاكركم، احجزوا مقاعدكم، أحبابكم في انتظاركم، الدار الأخرى ... الدار الأخرى". لكن خالد لم يكترث، لم يحضر طبيبا، ولم يقصد حتى صاحب التذاكر... ولم يحجز مقعدا، تجول متعجبا في جمال هندسة المحطة، دار مرافقها واحدا واحدا، فرح فرحا شديدا إذ رأى مقاعدها ممتدة، وأكشاكها مفتوحة، وحرسها ساهرين. بعد أن أعياه كثرة التأمل في المحطة الخارقة الجمال.... توسد ملحفه على المقعد العمومي في المحطة وقال في حزن شديد "إيه يا زوجتي، لقد اشتقت إليك كثيرا، سأنام قليلا لعلي أراك في منامي..." ونام مرتاح البال، حتى أشرقت شمس الصباح... وغادرت حافلة "الدار الأخرى".... تحمل كثيرا ممن ذهبوا لزيارة أحبابهم بعد طول انتظار، إلا خالدا، فقد رضي المكوث في محطته عوض زيارة الأحباب... بقي خالد مستمتعا بمكوثه حتى أيقظته شرطة المحطة، تعجب من تصرفهم، ظن أنه مسموح له المكوث آبدا، لكن الحراس أخبروه أنها مجرد محطة، وأن لكل ماكث فيها أجل محدود، يقضي فيه غرضه ويقتني متاعه ثم يغادر إلى وجهته.... حينها لملم خالد أغراضه وولى وجهه شطر سيارات الأجرة، هنالك وجد والده في انتظاره، التقفه من قميصه ورمى به داخل سيارة أجرة، وجهتهم قرية الدار الأخرى، كان البيت يعج بالزوار، من النائحات والباكيات والمعزين، فيما وضع في فناء البيت ثلاث توابيت، تابوت هند، تابوت أميمة، وتابوت الأم.... سقط خالد على وجهه وهو يصرخ: "يا ويلتاه، يا ليتني ركبت في الحافلة، يا ليتني اخترت أميمة وهند، يا لتني سمعت كلام محمد، يا ليتني سمعت كلام محمد، يا ليتني غادرت المحطة، يا ليتني اقتنيت التذكرة قبل فوات الأوان". وأقبل عليه أهله يلعنونه ويصرخون في وجهه " يا جبان، يا طماع، يا غبي، بعت أحبابك من أجل نومة في محطة لست فيها بخالد، وهل يخلد الناس في المحطات؟ وهل يخلد الناس في المحطات؟ والله ما أنت فيها بخالد، والله ما أنت فيها بخالد، فلقد صدقك القائم على الحافلة وعده، ولقد صدقك محمد وعده..." حينها أقبل عليه محمد وملئه الحزن وقال: "ألم أبلغك رسالة هند وأميمة، ألم أبلغك رسالة والدتك؟ ألم أقل لك اركب معنا؟ والله إنك ظالم لنفسك، فذق الآن ما جنيت، بئس المصير". [email protected]