ربط بعض المحللين بين بث بعض القنوات الأمريكية لصور هجوم القوات اليونانية على المتظاهرين المحتجين على سياسة التقشف التي سنتها حكومة جورج باباندريو في أثينا ، وبين الانخفاض المفاجئ لليورو في مقابل الدولار الأمريكي..وعلى الرغم من أن هذا الربط يحاول التأكيد على الدور الفعال الذي تلعبه السلطة الرابعة اليوم في التأثير على الأحداث السياسية والاقتصادية ، فإنه ، مع ذلك ، لا يخلو من مكر سياسي وشعور مغلف بالشماتة..فأمريكا التي لم تتعاف بعد من آثار أزمتها الاقتصادية ، تريد تذكير القارة العجوز بأنها ، هي أيضا ، ليست بمنأى عن الأزمات الاقتصادية التي يمكن أن تعصف بوحدتها الاقتصادية وقوة رمزها المالي اليورو الذي أصبح منذ سنوات منافسا قويا للدولار.. إن ما يحدث في اليونان لا يستبعد أن تنتقل عدواه إلى عدد من أقطار الاتحاد الأروبي ، خاصة منها الأكثر هشاشة من بين الدول الخمسة عشر الأخرى..وهذا ما أكده المدير العام لصندوق النقد الدولي "دومينيك ستراوس كان" ، مستبعدا من دائرة الخطر الدولتين القويتين في منطقة اليورو فرنسا وألمانيا..ولعل إحدى أهم الحقائق التي أفرزتها هذه الأزمة اليونانية أن هذه الدول رغم ائتلافها الاقتصادي ووحدتها المالية ، إلا أنها لم تتخلص كلية من "أنانيتها"..وتجلى ذلك بشكل واضح في إصرارها على فرض نسبة فائدة بلغت خمسة بالمائة على قروضها لليونان ، الأمر الذي ساهم في اندلاع الأزمة ، التي لم تستطع المساعدات الطائلة التي قدمتها دول الاتحاد الأروبي وصندوق النقد الدولي والتي بلغت قيمتها الإجمالية 140 مليار دولار ، لم تستطع حتى الآن احتواء الأزمة..فهل تعصف هذه الأزمة بالبيت الأروبي ويتحقق بذلك جزء من رغبة "العم سام" الذي بات يزعجه هذا الائتلاف الاقتصادي ، كما كانت تزعجه قبل سنوات النمور الأسيوية؟ أم أن القارة العجوز قادرة على تجاوز هذه الأزمة والخروج منها أكثر قوة وصلابة لتقف بذلك موقف الند العنيد للهيمنة الاقتصادية الأمريكية؟ لا أحد يستطيع الآن ، في ظل هذه التحولات التي تشهدها الأسواق العالمية ، أن يتكهن بما يمكن أن تؤول إليه هذه الأزمة..فالمستقبل مفتوح على كل الاحتمالات..والشارع اليوناني بدوره فاعل قوي في الأحداث ، يرفض بشكل قاطع المزيد من سياسة الانكماش التي تنهجها الحكومة اليونانية والتي تؤدي إلى التقليص من الإنفاق عن طريق تخفيض الرواتب والمعاشات والرفع من الضريبة على القيمة المضافة ، لادخار ما يقرب من أربعين مليار يورو خلال السنوات الثلاث القادمة..إنها إجراءات فيها الكثير من المجازفة التي قد تعصف بالإرث السياسي الكبير للزعيم الاشتراكي الذي يقود الحكومة اليونانية جورج باباندريو.. والغريب أن العالم ، منذ سقوط جدار برلين في ثمانينيات القرن الماضي ، فقد الكثير من مناعته ، وأصبحت ترسانته الاقتصادية في مهب الريح ، يتهددها أول اضطراب بسيط ، لتنتشر بعد ذلك آثاره في الأسواق العالمية انتشار النار في الهشيم..وكأن غياب التوازن العالمي الذي كان يحققه وجود قطبين متنافسين ، أرخى بظلاله القاتمة على المشهد الاقتصادي ، فأصبح أدنى اختلال في نقطة صغيرة من الكون يؤثر بتداعياته على مجموع النقط الأخرى..فلا بدع أن تصبح حياتنا اليوم سلسلة من الأزمات المتتالية ، لا تكاد إحداها تنتهي حتى تأخذ الأخرى في الظهور..ويبقى الاقتصاد الصيني ، بخلفيته الإيديولوجية الصارمة ، أكثر الاقتصادات صمودا ومناعة حتى الآن..إذ لم يتأثر بشكل مباشر بمختلف الأزمات التي زعزعت المنظومات الاقتصادية في الدول الأخرى..ولعل أحد أهم العوامل المساعدة على ذلك ، الاحتياطات الاستباقية التي تتخذها الدولة الصينية بمجرد استشعارها لبوادر أزمة اقتصادية في أي منطقة من العالم..من ذلك مثلا اتخاذها في الآونة الآخرة ، وعلى هامش الأزمة اليونانية ، لإجراءات صارمة تقضي بالتقليص من معدلات النمو الخاصة بها ، قصد التحكم في معدلات التضخم.. ولنعد الآن إلى خرافنا كما يحلو للفرنسيين أن يقولوا..فاقتصادنا فريد من نوعه..لا يتأثر ، والحمد لله ، بما يجري في العالم من تقلبات(والعهدة على وزير الاقتصاد وفريق عمله)..وكأننا نعيش في جزيرة معزولة..فمهما تكن حدة الأزمات التي تصيب اقتصاد الدول الأخرى ، فنحن لنا اقتصاد "قوي ومتين وصامد" في وجه كل التقلبات..والغريب أن إعلامنا الرسمي ومسؤولينا يستشهدون بتزكيات كبار الخبراء في الاقتصاد الذين يصرحون (لاندري متى ولا أين ولا لمن ولا لماذا) بأن المغرب له سياسة اقتصادية تعصمه من التأثر بما يقع في العالم من أزمات ، وأنه استطاع أن يجتاز المرحلة الصعبة بسلام..فإما أن خبراءنا في الاقتصاد هم عباقرة بالفعل ويستحقون كل تقدير وإعجاب ، وإما أننا لا اقتصاد لنا أصلا ، فلا خوف علينا إذن من الأزمات ومن تبعاتها..لذلك فلا شيء فينا يتأثر إذا بثت أكثر القنوات الدولية انتشارا في العالم صورا حية لمتظاهرينا أمام مبنى البرلمان ، وهم يستقبلون بصدور رحبة ورؤوس مكشوفة ضربات قوات الأمن بوتيرة تكاد تكون يومية.. فعملتنا في منأى عن أن يزعزعها ما جرى ، وبورصتنا تشهد نفس الحركة وتسجل نفس الارتفاعات ، بصرف النظر عما بثته القنوات أو لم تبثه..فأين يكمن الخلل إذن؟ هل في عملتنا التي لا تكاد تساوي شيئا أمام اليورو، ومع ذلك لها مناعة ضد كل الهزات الاقتصادية والسياسية؟ أم في كوننا لا ننتمي إلى الاتحاد الأروبي؟ علما بأننا أقرب إلى أروبا من اليونان ، ونتمتع بوضع متقدم يجعلنا قاب قوسين أو أدنى من منطقة اليورو؟ أم أن الخلل في متظاهرينا الذين أصبحوا جزءا من المشهد اليومي المألوف ، وطقسا من طقوسنا اليومية التي تؤدَّى برتابة كمعظم واجباتنا ، فما عادوا يؤثرون في دولار ولا في يورو ولا حتى في درهم؟ أم أن الخلل في اقتصادنا الذي لا وجود له ، فأحرى أن تهزه مظاهرات أصبحت أشبه ما تكون بالتدريبات اليومية لقوات مكافحة الشغب؟ نحن لا نهزأ فالموضوع جدي وجاد..ولكننا نريد فقط أن نفهم هذا الفرق الموجود بين متظاهرين إذا بُثت صور تظاهراتهم على القنوات الدولية اهتز لها اليورو ، ومتظاهرين لو اجتمعت كل القنوات الدولية لتصوير المَشاهد الحية من دروس انتهاك حقوق الإنسان التي ترتكب في حقهم ، لما حرك ذلك ساكن الفرق البرلمانية التي تتفرج يوميا على هذه الانتهاكات ، إما من شرفة البرلمان أو من المقهى المشهور الذي يقابلها..فأحرى أن يحرك الرأي العام العالمي ، أو يزعزع عملة من العملات.. إن ما يحدث في اليونان درس آخر من الدروس المهمة التي ينبغي أن نتأملها ونعيها جيدا..فالحكومات التي لا تستطيع أن تحصن شعوبها واقتصادها ضد رياح الأزمات التي يمكن أن تعصف بها في كل وقت وحين ، ولا تعرف كيف تدبر الأزمة بعد حدوثها ليست أهلا للمسؤولية الملقاة على عاتقها..حتى وإن كانت هذه الحكومة لدولة عضو في الاتحاد الأروبي..أو تحظى بوضع متقدم لديه..فالحلول الترقيعية التي تنزل في شكل فتاوى ونصائح مجانية لا تزيد الوضع إلا تأزما ، ولا تغرق البلاد والعباد إلا في المزيد من المعاناة..والمساعدات الخارجية – مهما كان سخاؤها وحجمها – قد توقف النزف لبعض الوقت ، ولكنها لن تشفي الجرح ولن تستأصل الداء..فهل نستفيد من الدرس اليوناني كما استفدنا من دروسه القديمة في الحكمة والفلسفة..؟