أبدى الشاعر صلاح بوسريف، الباحث في شؤون المعرفة والإبداع، رفضه لأن تتحول الجامعة المغربية إلى حزب أو مسجد أو ثكنة عسكرية أو مخفر شرطة، مبرزا أن "الجامعة يمكن أن تكون فضاء للنقاش الديني والسياسي مؤطرا بالمعرفة والتاريخ". وأكد بوسريف، في مقال وسمه بعنوان "العقل لا القتل" توصلت به هسبريس، أن "الجامعة ليست مكانا للوضوء والصلاة، ونشر "الدعوة" و "هداية المرتدين"، بل ملتقى للمعارف واستخدام العقل الذي به يحيا الدين كما تحيا الماركسية وغيرهما من المذاهب الفكرية". العقل لا القتل هل تحوَّلتِ الجامعةُ إلى شَرَكٍ، بعد أنْ كانت مكاناً للمعرفة والحوار وتبادُل الرأي؟ مَنْ زَجَّ بهذه النفوس الشَّغُوفَة بالبحث والتَّعَلُّم في أتون معارك لا طائِلَ من ورائها، سوى تبديد الوقت والجُهْد والنَّفْس في حروبٍ لا تُفيد في شيء؟ هل بلغ بنا الأمر إلى أن نَخْرُجَ من رؤوسنا التي هي ما يقودُنا للجامعة، ونتحوَّل من طُلاَّب معرفة وعِلْم إلى طُلاَّب دَمٍ وثَأْر؟ ثم، هل عجزت المعرفة عن إقْناعِنا بالإنصات والمُجادَلَة واستعمال العقل والبُرهان في إقناع خُصومنا، أو في ثَنْيِهِم عن الفكر الذي نعتقد أنَّه لا يسمح بالتقدُّم، وبالتَّحديث والخروج من شَرْنَقَة التطرُّف، ليس فقط، بمعناه الدِّيني، بل حتى بمعناه السياسي أو الأيديولوجي، لنتحوَّل من عقول تُفكِّر وتُحاوِر وتُناظِر، إلى أجسام تَفْتِك وتَقْتُل وتُصادِر؟ هل الجامعة أرض بلا مالكٍ، تتنازع على احتلالها الشُّعوب والقبائل، وكُل واحدٍ يُعِدُّ ما استطاعَ من جيش وعتادٍ لإقصاء الآخرين وإخراسهم، أو إعدامهم بالمرَّة؟ أين القوانين التي تضبط علاقة الطَّالب بهذا الفضاء العلمي المعرفي، الذي هو فضاء مُشْتَرَك، وليس ملكاً لأيٍّ كانَ؟ وبالتالي، أين هي الوزارة الوصية عن هذا القطاع من كل ما يحْدُث، عِلْماً أنّ ما جرى من قَتْلٍ في الجامعة، ليس الجريمةَ الأولى أو الأخيرة، فثمَّة عقول ذُبِحَت في الحَرَم الجامعي، ولا أحد تَدَخَّل لإدانَةِ أو مُحاكَمَة القَتَلَة و معاقَبَتِهم؟ هل يعني هذا أنَّ أرواح البشر تُكالُ بمكاييل مختلفة، وأنَّ هناك الروح «الشَّهيدة» وهناك الروح «المارِقَة»؟ الخِلافاتُ المذهبية، كانت دائماً حاضِرةً في الجامعة، وعِشْنا تجاربها، في المغرب كما في غيره من البلدان التي دَرَسْنا فيها، والصِّراع الفكري والأيديولوجي لم تَخْلُ منه مدرسة أو جامعة، وهو ما نجده حتى في المساجد وأمكنة العِبادَة، وبين الفُقهاء من نفس المذهب، وبين الفُقهاء من مذاهب مختلفة. لكن، حين يتحوَّل الخلاف الفكري إلى تَناحُراتٍ، وإلى دَمٍ، وتشابُك بالأيدي أو بالسيوف والخناجر، فهذا، لعمري، إيذانٌ باندحار الجامعة، وبانتهاء فكرة أفلاطون في تأسيسه ل «الأكاديمية»، وفي المعنى الثقافي ل «المدينة» La citè. فمن لا يستطيع إقناع غيره بفكره، مهما كان تحجُّر هذا الغير وانغلاقه، ومهما كانت طبيعة الرؤية التي تحكم فكره ونظره، فهذا شخص لم يتعلَّم، ولم يُدْرِك معنى أن يحمل الإنسانُ في رأسه عقلاً يُفَكِّر ويتأمَّل ويتساءل ويقترح وينتقد، دون أن يصل به الأمر إلى فَصْل الرؤوس عن أجسامها، والعَبث بأرواح البشر. ليس مقبولاً أن تتحوَّل الجامعة إلى حزبٍ، وليس مقبولاً أن تتحوَّل أيضاً إلى مسجد، أو إلى ثَكنَة عسكريةً، أو مَخْفَر شُرْطةٍ. يمكن أن يكون في الجامعة مكان للنقاش السياسي، كما يمكن أن يكون فيها مكان للنقاش الديني، لكن شريطةَ أن يكونا مُؤَطَّرَيْن بالمعرفة وبالتاريخ، وبالمصادر التي تُضيء هذه المعرفة، وبالانفتاح على الكُتُب الدينية والسياقات التاريخية المُوَازِيَة لِتارِيخِنا الديني والثقافي، وليس باجترار أفكار ماركس أو لينين، دون دراستِها وتأمّلِها ونقدها أو فَحْصِها، لأنَّها ليست قرآناً نازلاً من السماء، أو باجترار أفكار ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وسيد قطب أو حسن البنا، وكأنَّ القرآن وما صَحَّ من حديث، أو حَدَث عليه إجماع الأئمة الكبار، لم يَعُودا صالحيْن لنقرأهما بتأمُّل وتَدَبُّر وتَأَنٍّ. الجامعةُ هي مُلتقى معارف وتجارب وخبرات، وهي مكان لاختبار قُدْرَةِ العقل على التَّطَوُّر والاخْتِلاقِ والإبداع. وليست مجرد مكان للوضوء والصَّلاة، ونشر «الدعوة» أو «هداية المرتدين!»، فهذا أمر يمكن القيام به في أي مكانٍ، إذا جاز اعتبار المسلم غير «الأصولي» أو غير المنتمي لأحدى «الفِرَق الدينية» التي تنتشر في الجامعات كالنار في الهشيم، كافراً أو مُرْتَدّاً. والقرآن هو كتاب مفتوح دائِماً للقراءةِ، في يَدِ من يعرف كيف يقرأه، وليس كيف يَدَّعيه، أو يَنْتَحِلُه، في ما هو يجهل لُغَتَه، أحرى أن يَفُكَّ تاريخَه وسياقاته المختلفة التي هي من شأن العُلماء، والدَّارسين الذين يحتكمون في معرفتهم للعقل والنظر، وللمصادر القديمة، وليس للعاطفة، أو القراءات التي تَسْتَنْجِدُ بالبُكاء والصُّراخ، لِتُخْفِي عَجْزَها عن الفَهْم والتَّدَبُّر والتأويل. كما أنَّ الماركسية، كما كتبْتُ من قبل، هي نفسها، وعند ماركس نفسه، لا تذهب إلى «الاعتقاد» بها باعتبارها سَماءً، أو كتاباً مفتوحاً على الأبد. من يقرأ ما صَدَر عن المفكرين والفلاسفة الكبار، وعن عدد من الماركسيين الذين درسوا الفكر الماركسي بهدوء ودون تشَنُّجاتٍ فكرية أو عاطفية، سيُلاحظ أنَّ النقد الذي وُجِّه للماركسية، كان أَقْذَع مما وُجِّه لغيرها، وهذا لا يحدُث، إلاَّ للأفكار والمذاهب الفكرية الكُبْرى، التي كان لها دور في تحويل فكر الإنسان، وفي قَلْبِ الكثير من القِيَم والمعارف والمفاهيم. لا ينبغي أن نستهين بالفكر الماركسي، كما لا ينبغي أن نستهين بالفكر الدِّيني، لكن قراءتَنا لَهُما ينبغي أنْ تَحْدُثَ بوعي، وبمعرفة بشروطهما الموضوعية، والسياقات التاريخية والثقافية التي ظهرا فيها، وما يتأسَّسا عليه من أبعاد إبستمولوجيّة. فجَهْلُنا بهذه الأمور، يزيد من جهلنا بهذين الفكريْن، ويجعلُنا خارجَهُما، وما نحمله عنهُما من أفكار، هو مُجرَّد تشنُّجاتٍ واستيهاماتٍ، وهذا ما يحدث اليوم في الجامعة التي أصبح الطَّالبُ المّتَدَيِّن، أو المتطرِّف، لا شُغْلَ له سوى مراقبة ألسنة الأساتذة، وما قد يبدو فيها من مَيْلٍ لهذا المعنى أو ذاك. فأصبح الطَّالب المُتَعَلِّم هو من يَمْتَحِن الأستاذَ ويَحْكُم عليه أو يُحاكِمُه، أو يُجَيِّش ضِدَّه الطلبة للاحتجاج عليه ورفض دروسه، بدعوى أنَّها تمسُّ الدين، هكذا، دون أن يتساءل الطالب بصدد ما قاله الأستاذ، أو يُكَلِّف نفسَه مشقَّة البحث والتَّنْقيبِ، وحَمْل ما يكفي من الحُجَج والدَّلائل لمناقشة الأستاذ، أو لِمُجابهته، وهذا، بالأسف، هو ما اختفى في الجامعة، وهو ما فَعَلْناه مع أساتِذًتِنا، وهو ما فعلناه مع الطلبة من الفصائل التي لم تكن تنتمي لِما دافَعْنا عنه من أفكار، وكان بين ما جعَلَنا نخرجُ من الجامعة أحياء، وننتصر للعلم والمعرفة، لا للجهل والتضليل، وقَتْل النفس البشرية بغير حَقّ. الذين نَزَلُوا من وزراء في جنازة الطالب المقتول، أو «الشهيد» بتعبير رئيس الحكومة، الذي لم يستعمل هذه الصفة في حق من قُتِلُوا قبلَ هذا الطَّالب، وفي نفس المكان، نَسَوْا أنَّ الدِّينَ ليس أن ندفع الشُّبَّان الذين هُم في عمر الزهور، وفي مُقْتَبَل حياتهم العلمية، لينتحروا بهذه الطريقةِ، «دفاعاً عن الوطن!»، كما جاء على لسان عبد الإله بنكيران، أو بشحنهم بالفكر الوهابي أو الإخواني المتطرف، فحَمْل الناس على الحكمة والمُجادلة بالعقل، لا بالدِّيمَاغُوجِيَة العمياء التي يتحوَّل فيها الإنسان إلى حَطَبٍ لأفكار مريضةٍ لا علاقةَ لها بالدِّين، أو هي دينٌ من نوع آخر، هو السبيل الوحيد لفضح الجهْل والانتصار للوطن والدّفاع عنه، لا الدِّفاع عن دِينٍ ليس هو الدِّين، وعن فكر لا عَقْل فيه. ففكرة «المدينة» التي أسَّسَ لها الفكر الأغريقي، هي فكرة الإنسان العالِم، العارِف، المثقف الذي يبْنِي ويُضيف، ويُساعد على تَثْبِيت القانون وتكريسه، والدِّفاع عن الحق في التعبير والتفكير، وهذا ما كان أفلاطون فعلَه، حين سَوَّرَ الأكاديمية، فهو أراد أن يجعل من العقل والمنطق والاستدلال، هي الحُجَّة في تعريف الإنسان وفي تمييزه، وفي الحفاظ على فكرة «المدينة» التي هي فكرة ثقافية معرفية، ما يعني أنَّ الإنسان لم يوجَد للقَتْل والنَّفْيِ والإقصاء والتخريب والتكفير، بل وُجِد ليكون بانياً، ومُساعِداً على البناء. هذا ما سنجدُه، لاحِقاً في القرآن نفسه، الذي دعا لِمُجادلة المُخالِفِين، «بالتي هي أحسن»، ولا شيء أحسن من العقل الذي يحاجُّ ويَسْتَدِل ويتبادَل الأفكار، أو كما جاء في القرآن نفسه، على لِسان الرسول «لَكُم دِينُكُم ولِيَ دِين». فهو لم يقُل لِيَ دِينٌ ولا دِينَ لَكُم. اخْرُجوا من الجامعة، جميعاً، ومن أرادَ أن ينتصر في معركةٍ ما فَلْيَحْرِص أن يكون مُناصروه، ومن اقتنعُوا بفكره طَلَبَةً ناجِحينَ، مُتَفَوِّقِين، نُبَهاء، يحتكمون في معرفتهم للعقل، وحتى حين يذهبون للفكر الدِّيني، كيفما كانت تَوَجُّهاتُهم، يذهبون إليه بما هو «أحسن» لا بما هو أسْوَأ. وهذا ما يمكن قولُه للمتطرِّفين من اليساريين، ممن تركوا العقل، واستعمَلُوا النَّقْل بديلاً عنه. فالدِّين يحيا بالعقل، كما تحيا الماركسية أو الماركسية اللينينية، أو غيرهما من المذاهب الفكرية، بالعقل أيضاً، وليس بالقَتْل، وهذا ما كانت الجامعة وُجِدَتْ لتقوله لنا، فأنصِتُوا للجامعة، واسْتَعِيضُوا، جميعاً، عن القتل بالعقل، وبالحكمة والتَّبَصُّر، لا بتأجيج النفوس ومَلْئِها بالأحقاد، لتكون على استعداد للانتحار من أجل أفكار، لا شيء يدُلُّ على أنَّها صائبة، أو خالِيَةً من العَطَب.