دماء طاهرة تلك التي أسيلت يوم الجمعة الماضية بظهر المهراز. دماء زكية حسناوية تلك التي ارتقت إلى ربها، نحسبها راضية مرضية. روح هي أغلى عند بارئها من الدنيا وما فيها. ليس طهرها ولا قيمتها نابعا من منصب أو مكانة اجتماعية، ولا من دين أو عقيدة فكرية، وهو ليس نابعا بالتأكيد من انتماء لفصيل أو إيديولوجية سياسية. إنه طهر ورقي نابع من كون تلك الروح هي روح في ريعان الشباب طالما مشت بين أزقة ودروب هذا الوطن، روح ساقت جسد حاملها لمساجد وجامعات ومقاهي وأسواق... روح أصغت لصاحبها طويلا في ليال وليال وهو يجد ويجتهد راغبا في نجاح وعلم ينتشله وأسرته من ضيق ذات يد. كانت حاضرة حين كان يخط على دفتره أحلاما كبيرة جدا، ليس له وحده ولا لأمه وأبيه فقط بل للوطن كل الوطن. قد عادت اليوم لبارئها غير مستعجلة ولا مستأخرة يوما أو لحظة، لكنها أخذت من أهل الأرض على حين غرة، وتركت بينهم دمعة وغصة. غصة كبيرة على فراق زهرة قطفت قبل أن يتأتى لها أن تزهر وتطلق أريجها، يتعطر به كل الأهل والأحبة. غصة أكبر، على وطن لم يخرج أبناؤه بعد من خيمة العزاء حتى انشغلوا بالتربص لبعضهم .. فكيف تتجرأ أنت على مواساته ولم تواسيني وتواسيه وتواسيه وتواسيه... وتواسيه هو أيضا. ألا تعلم أننا وضعناك على ذاك المقعد كي تتفرغ للعزاء فقط ... هل تريد منا حقا أن نصدق بأن عزاءك لنا جميعا دون استثناء؟ لماذا بكيت وواسيت وطيبت الخواطر؟؟؟ أولا تدري أن المناسبة تتطلب غير ذلك؟ أونسيت أنه كان عليك أن تصرخ وتهدد وتتوعد؟ توعد الجميع... نعم الجميع. توعدهم بالويل والثبور، وأخبرهم أن روحي ما زالت محلقة تنتظر... تنتظر القصاص القصاص منكم جميعا... ممن قطفني ظلما وعدوانا ممن أشار إلي بالبنان ودل علي لأجتث قبل الأوان. ممن وقف مراقبا وأنا ألفظ أنفاسي...وكم ناديت وناديت عله يهرع لنجدتي، لكنه ظل واقفا يراقب، قبل يستدير ويعطيني بظهره. مسعاي ليس عندكم أنتم وحدكم فقط فالقصاص منكم بين ظاهر لن ينازعني في حقي فيه أحد. لكنني أطلب القصاص من غيركم أيضا.. ممن تركوكم تهيمون على وجوهكم... فلا هم أمروكم بالمعروف ولا نهوكم عن المنكر ممن قصروا في تربيتكم وتعليمكم وتأهيلكم حتى أصبحت صدوركم تضيق بكم قبل أن تضيق بغيركم ممن زودوكم بصمامات الآذان حتى لا تستمعوا ولا تنصتوا ممن شحذوكم وشحنوكم قبل أن يطلقوكم في الحلبة تتراكضون وتدوسون فالكل... الكل بلا استثناء يحمل المناديل الحمراء. فقبل أن تتباكوا علي جميعا وتذكروني في مجالسكم، اعلموا أني سأبقى محلقة... لن أغادر حتى يؤخذ القصاص فلا رغبة لي في أن تلتحق بي وترافقني في الرحلة أرواح أخرى... سأبقى محلقة... لن أغادر. حتى تكفكفوا دمع أمي ووطني وتضمدوا لهما الجراح. سأبقى محلقة...ولن أغادر حتى تتعهدوا جميعا بأن أكون آخر المرتقين. بأن أكون آخر الأضحيات على أعتاب المعبد، معبد الجهل والعنف والإرهاب والتعصب. تداولوا... تشاوروا... وقرروا فأنا هنا.. سأبقى محلقة ... ولن أغادر.